دراساتصحيفة البعث

كوفيد ونهاية العولمة

إعداد: عناية ناصر

أزالت العولمة الحدود بين المجتمع العالمي، وزادت من التفاعل ليس بين الدولة فحسب، بل أيضاً بين الشركات والمنظمات الدولية. ووفقاً لـ ديفيد هيلد، عالم السياسة البريطاني، فإن العولمة هي مجموعة من العمليات التي أدّت الى التحوّل المكاني في العلاقات الاجتماعية الموجودة في الداخل، لكن الوباء الحالي غيّر كل شيء.

الوباء هو الرصاصة الأولى

غيّرت جائحة كوفيد-19 العديد من جوانب الحياة، من التفاعل إلى الانكماش الاقتصادي. في القطاع الاقتصادي، أعاق كوفيد 19 سلسلة التوريد، وكما أفاد البنك الدولي، فقد كان هناك انخفاض في النشاط الاقتصادي بنسبة 7٪ في البلدان المتقدمة، و2.5٪ في البلدان النامية في عام 2020. كما أجبر الوباء جميع الأطراف على التكيّف من أجل البقاء في وضع غير موات للغاية. لكن استجابة المجتمع الدولي تبدو غير متسقة وتميل بعض القوى إلى اعتبار ذلك لحظة جديدة لتعزيز نفوذها، وقد تجلّى ذلك في قمة اجتماع “بريكس” في 17 تشرين الثاني 2020، إذ دعت روسيا التي طورت لقاح “سبوتنيك 5” لاستخدام اللقاح الذي صنعته، ثم تحركت الصين وأمريكا بمفردهما لفعل الشيء نفسه. ويمكن تفسير ذلك على أنه حرب هيمنة جديدة مع التركيز على دبلوماسية اللقاح. إضافة إلى ذلك، صار الوباء حافزاً للدول الكبرى لزيادة تعزيز نفوذها في القطاع العسكري.

زيادة الموازنات العسكرية

زادت أمريكا والصين والهند وبريطانيا وروسيا، التي تسيطر على 62٪ من الإنفاق العسكري العالمي في عام 2020، إنفاقها العسكري بشكل كبير، فقد زادت أمريكا إنفاقها العسكري بنسبة 4.4٪، والصين 1.9٪، وروسيا 2.55٪، وبريطانيا 2.9٪. وعلى المستوى العالمي، كانت هناك زيادة في الموازنات العسكرية بنسبة 2.4٪ في عام 2020 والتي كانت بحدود 2.2٪ من الناتج المحلي الإجمالي فقط في عام 2019. في مقابل ذلك، انخفض متوسط الناتج المحلي الإجمالي العالمي خلال الوباء بنحو 4.4٪، وهذا اتجاه خطير للغاية بالنظر إلى أنه في أوقات عدم اليقين هناك حاجة إلى حسابات جديدة من أجل الحفاظ على الاستقرار الوطني والدولي. بمعنى إذا استمر الإنفاق العسكري في الزيادة كل عام فسوف يجبر البلدان الأخرى على تنفيذ “توازن للقوى” ولن يتحسّن الوضع.

الحرب المركزة

من ناحية أخرى، فإن الحروب التي تراجعت بشكل كبير تثير أسئلة عديدة، فهل هذه علامة على أن العولمة قد نجحت في جعل بلدان العالم تتبنّى التعاون؟. لقد اندلعت بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية عام 1945 صراعات عديدة في مناطق مختلفة مسبّبة فقدان الاستقرار، بدءاً من الحرب الكورية وفيتنام، والحروب العربية الإسرائيلية، إلى الحرب الأهلية اليوغوسلافية. وتُظهر البيانات الصادرة عن “فورين بوليسي” أن عدد الحروب في عام 2007 أقلّ مما كان عليه في عام 1990، ومع ذلك، كان هناك تركيز كبير إلى حدّ ما على الصراع في عدة مناطق مثل بحر الصين الجنوبي، وسورية، واليمن، وهي صراعات يتورط فيها العديد من الأطراف، وذلك دلالة على أنه في السنوات القليلة المقبلة ستكون هناك تغييرات كبيرة في نظام الحياة العالمي.

لا تأتي المشكلة فقط من التهديد المباشر بالحرب، ولكن هناك تهديد حقيقي أكبر ظهر منذ السنوات الثلاث الماضية، فمنذ عام 2018، شنّت أمريكا رسمياً حرباً تجارية على الصين من خلال زيادة التعريفات الجمركية على جميع السلع، وبدأت هذه الحرب من قبل ترامب الذي زعم أن الصين قد ارتكبت عمليات احتيال مثل سرقة الملكية الفكرية والإعانات غير العادلة. وقد أثر ذلك بشكل كبير على الاقتصاد العالمي، وأثار سياسات حمائية، وهو  ما شكل تهديداً حقيقياً لاستمرارية العولمة التي أكدت حتى الآن على الانفتاح.

الاستبداد وفقدان الخبرة

لم يؤدِ الوباء إلى تفاقم الظروف الاقتصادية فحسب، بل أدى، كما يرى البعض، أيضاً إلى تراجع القيم الديمقراطية، ففي بعض البلدان، أصبح الوباء ساحة لزيادة تعزيز تأثير قادة الدول من خلال قوانين تضفي الشرعية على جميع السياسات الصادرة. وبدا أن ثمة رقابة صارمة على وسائل الإعلام في محاولة للحفاظ على الاستقرار الوطني. في حالة هونغ كونغ مثلاً، حاولت كاري لام، رئيسة السلطة التنفيذية، حظر المظاهرات ضد مشروع قانون الأمن القومي الذي اعتبره بعضهم ضاراً جداً بشعب هونغ كونغ.

وهذا لم يحدث فقط في البلدان التي تزعم الديمقراطية، بل حدث أيضاً في البلدان النامية، كما في إندونيسيا ومينمار، في دليل واضح على استمرار تآكل الديمقراطية. ففي إندونيسيا، يحاول الرئيس الإندونيسي جوجو ويدودو القضاء على نظام “الضوابط والتوازنات” من خلال تقليل قوة المعارضة في الحكومة إلى إضعاف وكالة مكافحة الفساد، والحقيقة التي لا تقل أهمية هي تراجع مؤشر الديمقراطية في عام 2020، وهو الأدنى منذ 14 عاماً. أما في مينمار، وعندما كان الوباء يتصاعد، نفّذ النظام العسكري انقلاباً ضد أونغ سانغ سوكي، التي فازت بالانتخابات مما أثار الغضب داخل البلاد وخارجها.

وفي استطلاع نشره “مؤشر الديمقراطية” في عام 2020، بدت الديمقراطية في 167 دولة في أدنى مركز في آخر 15 عاماً منذ المسح الأول الذي تمّ إجراؤه في عام 2006. أي أن العولمة جلبت العديد من المشكلات الجديدة، إذ بدأت العديد من البلدان بالتخلي عن العولمة وتحاول العودة إلى فترة الإمبراطور “ميجي” التي نفذتها اليابان، أي من خلال الانغلاق على نفسها. وزعمت أمريكا في عهد ترامب أن هناك حاجة لاتخاذ خطوات جديدة للدفاع عن مصالحها الوطنية حتى لو أدى ذلك إلى التخلي عن العولمة. لذلك فإن زيادة الميزانيات العسكرية، وتنامي الاستبداد، وفقدان الثقة في المعرفة، تعزّز الفرضية القائلة بأننا أمام نهاية العولمة.