ثقافةصحيفة البعث

غوغول وغابة الشبح

يا له من دفءٍ في شتاء روسيا القارس، فرياح الشتاء هناك شبح يتحيّن فرصةً ليصفعك ويترك أثراً على جسدك، وربما هذا الذي دفع الكاتب الروسي نيكولاي غوغول إلى كتابة قصة “المعطف”، التي يهيم فيها شبح حاقد سُرق معطفه عندما كان على قيد الحياة، ويسكن مدينة سان بطرسبرغ، فيطارد المارة الأبرياء ليخلع عنهم معاطفهم الدافئة.

قصة غوغول في جوهرها حكاية مخيفة عن الفقر والعوز والفاقة وضنك العيش والانعزال الاجتماعي، وهي -أي القصة- برهان على قوة الأشباح التي تسكن منطقة واسعة تسعى فيها إلى تحصيل الديون، لا لتجاوزات حصلت، بل لفشل ألمّ بالمجتمع بأكمله.

تحكي قصة “المعطف” جزءاً من حياة أكاكي أكاكيفيتش، وهو موظف مدني كهل وأخرق كان موضع سخرية وتهكم في مجتمعه بسبب وضعه المتدني على الصعد كافة، فهو مستشار فخري، وهذا منصب دون المستوى نسبياً في “قائمة المراتب” في روسيا، يتسلّط عليه رؤساؤه باستبداد بارد، لكنه يستمتع في عمله بنسخ الأوراق والوثائق، إذ رأى فيه عالماً متنوعاً وممتعاً يعيش فيه وحيداً، ويفضّل أن ينسخ رسائل معينة ليزرع البهجة على وجهه.  ومع اقتراب الشتاء تذوي بهجة أكاكي، فهو إعلان عن دنوّ عدوّ لدود معتاد: “تحتضن سان بطرسبرغ عدواً رهيباً لكل من يتقاضى أربع مئة روبل أو نحو ذلك، وما هذا العدو إلا صقيعنا الشمالي”.

كان معطف أكاكي رثّاً ممزقاً لا يتحمّل نسمة هواء بارد، لذا بدأ يدخر لشراء معطف جديد، فتخلى عن المتع البسيطة التي جعلت حياته الموحشة ممتعة، كشرب الشاي وإشعال الشموع في المساء، وأضحى أكاكي يستمدّ المتعة من حلمه بشراء معطف جديد: “بدا وكأن وجوده صار أكثر اكتمالاً، وهذا الشعور جعله يحلّق في سماء الخيال برفقة أناس افتراضيين وزوجة بجناحين ممتدين في سماء ترقبه. وهنا، لم يعد وحيداً، بل برفقته أيضاً وليف لطيف قَبِل المسير معه على درب الحياة، وهذا الوليف هو معطف دفئه الروحي”. ثم ينتابنا من الرهبة ما اعترى أكاكي حين سرق معطفه الجديد في أول يوم ارتداه، وزاد السوء سوءاً كونه مستشاراً فخرياً، لم يكن على درجة من النفوذ تمكّنه من حمل السلطات كي تأخذ مصيبته على محمل الجد.

لم يحتمل أكاكي هذا الواقع المزري، فانتابته رجفة الوداع.. ولم يعد قادراً على حمل أحلامه وأمانيه.. وفي لحظة غاربة، يفارق أكاكي الحياة وسياط الهواء القارس على جسده النحيل تترك أثراً أقسى من موجة صقيع، وبدأت الشائعات تنتشر في المدينة عن ظهور “طيف في الليل بهيئة كاتب من موظفي الحكومة يبحث عن معطف مسروق”، فيحظى أكاكي بانتقامه بعد موته.

ربما بإمكاننا تضمين قصة غوغول في قائمة ما سمّته الكاتبة الأمريكية كاثلين بروغان “الأشباح الثقافية” [Cultural Haunting]، فهي مختلفة عن القصص التي تحكي عن أشخاص تطاردهم أطياف أمكنة مسكونة معزولة.

وفي مفهوم الأشباح الثقافية، تخضع المجتمعات بأكملها للحساب، وفي هذه الحالات، تكون الأشباح في غالب الأحيان ضحايا مظالم مستوطنة لا تنسى، وهنا تقول الكاتبة: “عن طريق قوة الأشباح، تُعاد صياغة تواريخ المجتمعات التي هُدّدت أو مُحيت أو فُتّت”. بالفعل، نرى شبح أكاكي لا يميّز شخصاً عن آخر، فيشدّ “المعاطف المختلفة عن كل الأكتاف، بمعزل عن الرتبة أو اللقب”. إذن، هو لا يتطلع إلى ترويع الرجلين اللذين سرقا معطفه، بل يروّع المدينة والمجتمع اللذين أهملاه وتركاه يقضي من البرد.

عملت قصص الأشباح في أمريكا الشمالية على التصدي لفقدان الذاكرة الوطنية، ففي رواية واشنطن إيرفينغ “أسطورة سليبي هولو”، يعكس الفارس مقطوع الرأس، وهو مرتزق شارك في الحرب الثورية لمصلحة البريطانيين، جمهوريةً فتيةً لا تزال الولاءات فيها ممزقة ومتقلقلة. وهناك أشباح تجوب الطرقات انتقاماً لجريمة الاسترقاق. ونجد هذا في رواية توني موريسون “محبوبة”، ومؤخراً في مجموعة الكندية مارلين فيليب “تسونغ”، التي ذكّرت بجريمة القتل الجماعي في عام 1781 للعبيد الأفارقة الذين ألقوا في المحيط الأطلسي، إذ أن رواية تسونغ “تطارد فضاءات النسيان” عبر استدعاء أشباح الأفارقة الغارقين لتدلي بشهادتها. وفي كتاب “أرض الأشباح” يعيد المؤلف كولن ديكي إلى الذاكرة “مزارع الرقيق” ومشافي الاضطرابات العقلية لتفكيك أمراض الرهاب الاجتماعي التي تسود قصص الأشباح في أمريكا، مثل “مقابر الهنود” في أفلام الرعب، يقول: “إن القصص التي تحكي عن مقبرة هندية مسكونة تخفي وراءها قلقاً معيناً من الأرض التي يعيش الأمريكيون عليها، خاصة البِيض في الطبقة الوسطى”، ويقرّ هنا بـ”فكرة أننا في الحقيقة لا نملك الأرض التي اشتريناها للتو”.

في نهاية قصة “المعطف”، رأى شرطي شبح أكاكي وتبعه في ظلام الليل، إلى أن توقف الشبح النشّال فجأة، واستدار نحوه قائلاً: “ماذا تريد؟” فردّ عليه الشرطي وقد تملكه الخوف: “لا شيء” وتراجع مسرعاً.

السؤال الذي يحضر هنا: ما مرادنا من هذه الأشباح؟ ولماذا لم يملّ الكتّاب من استخدامها في قصصهم؟ إننا كبشر نرتكب على الدوام أشكالاً غير مسبوقة من الأذى ونبرع بذلك، كالحروب، التي يذهب ضحيتها الفقراء دوماً، والتدمير الممنهج للبيئة بكل حرائقها وتبعاتها المادية والنفسية.

وهنا، تأخذنا قصة “المعطف” إلى أقصى درجات الحذر في استشراف الآتي ورسم ملامح الترقب في “غابة الشبح” بكل تفاصيلها وطقوسها الباردة التي عذبت وقتلت أكاكي. وقد يأتي يوم يمسي فيه ذاك الهواء البارد شبحاً يجول البلدان ليذكّرنا بجرائم الماضي.

علاء العطار