رأيصحيفة البعث

سطوة المقعد المغّيب!!

أحمد حسن

منذ نحو سبعين عاماً قال الفرنسي شارل ديغول: “الجغرافيا هي العامل الثابت في صناعة التاريخ”، وبغض النظر عن أمور عدّة، كان الرجل صانع تاريخ حقيقي، اليوم يأتي فرنسي آخر هو ايمانويل ماكرون ليضرب بهذا القول عرض الحائط حين يصرّ ومعه آخرون، بإيعاز أمريكي، على تغييب سورية عن مؤتمر لدول جوار العراق – اسمه الرسمي مؤتمر بغداد للتعاون والشراكة – وهي، بحقائق التاريخ والسياسة، الشق الآخر منه، كما هو بذات الحقائق الشق الآخر منها، وقبل ذلك فهي بحقائق الجغرافيا، الجار العربي الأبرز له، ليثبت الرجل، أي ماكرون، أنه، وبغض النظر عن أمور عدّة، لم يتعلّم أن يكون، كسابقه، صانع تاريخ، ولم يتجاوز مرتبة صانع فقاعة وفكاهة، فقاعة الدور الموهوم، وهو في حقيقته فتات سياسي أمريكي يُرمى له بين الفينة والأخرى، وفكاهة قيام رئيس دولة كبرى بتقريع وتهديد ساسة دولة صغيرة، لبنان، إذا لم ينفذوا مبادرته الشهيرة لإنقاذهم!!..، فيما يتكفّل دبلوماسي أمريكي من الدرجة العاشرة بتخريب كل جهوده بإشارة واحدة لبعضهم دون أن يجرؤ ماكرون حتى على الشكوى منه.

بهذا المعنى، يبدو تغييب سورية عن قمة دول الجوار مفارقة معتادة في هذا العالم – قيل في تبريره أنه لمنع إحراج بعض الحضور – لكنها مفارقة مؤلمة للمنطقة ولمصالحها الحقيقية، ودليل بيّن على رغبة واضحة في استمرار مأساتها، فحين يكون غياب بلد هو حدث بارز من أحداث قمة ما، فهذا يعني أنها قمة الغياب رغم الأوزان الدبلوماسية الثقيلة لبعض الحضور.

والحق فإن اللافت في الأمر كان في درجة طغيان الغياب السوري على الحضور، فكانت دمشق المغيّبة حاضرة في كل نقطة وعند كل تفصيل، كانت هي المسكوت عنه في خطابات الحضور، وكان طيفها حاضراً في كل اجتماع جانبي لفريقين أو أكثر منهم. صاحب قرار التغييب كان يراقب بصمت تلك الثغرة التي تركها الغياب، صاحب قرار الرضوخ – ولو بأمل دور موهوم لا تسمح به توازنات و”تمترسات” القوى الحالية الفاعلة – عرف حينها أن لا شيء لحصاده من بيدر القمة أكثر من وعود لن تنفذ وصورة تذكارية تقليدية، لكنها، كعادة الصور، ستكون، في التاريخ المقبل، وثيقة رسمية دامغة على الفشل في صناعة التاريخ حين يتم تجاهل الجغرافيا.

بهذا المعنى، بدت أسئلة القمة، بعد انتهائها، أكثر من أجوبتها، فكيف تسعى واشنطن، كما تقول، لحل مشكلة العراق وهي تؤكد على تأزيم مشكلة سورية؟! وكيف تكون قمة دول جوار العراق فتغيب سورية وتحضر فرنسا البعيدة آلاف الكيلومترات؟! أو تحضر بعض الدول التي هي جزء فاعل ومزمن في مأساة بغداد؟! جزء ليس له أي مصلحة في عراق قوي ومستقل، لا عراق صدام ولا عراق ما قبله أو ما بعده، تركيا إحدى هذه الدول مثلاً، قطر مثال آخر.

وتلك أسئلة تقول لوحدها إن بياناً ختامياً يصدره هؤلاء عن محاربة الإرهاب، وبعضهم من أكبر صنّاعه، ليس إلا بياناً “خديجاً” منذ ولادته، وأن وعوداً بإعمار العراق ممن ساهم ولا زال في تدميره، لأن في ذلك مصلحته، ليست إلا جملاً بلاغية لفظية ليس لها أي أثر مستقبلي، وأن وعوداً بدور مستقبلي للعراق في المنطقة، ممن جعل دأبه محاصرته وتقسيمه، ليس إلا وعد ليلة صيف حارة وقائظة.

عام 2012 حين عقدت أول قمة عربية دون سورية كان التشفي الذي يطل من عيون البعض طاغياً على نظرات القلق والخشية في نظرات البعض الآخر وهم ينظرون إلى المقعد السوري الفارغ، وكانت النتيجة أن العرب بعدها انحدروا، ولا زالوا ينحدرون، من قاع إلى قاع آخر أعمق منه.

عام 2021 في قمة بغداد وبغياب سورية لا يوجد إلا نظرات القلق والخشية، لا نظرة تشف من أحد، حتى من أصر على تغييب سورية كان يعلم أنه يعاند حقائق التاريخ والجغرافيا، وأن النتيجة لكل هذه “الهيصة” ستكون صورة تذكارية لجريمة أخرى ترتكب علناً ضد مصالح أبناء المنطقة الحقيقية لا أكثر ولا أقل.