مجلة البعث الأسبوعية

باعتباره قاطرة تنموية ويسهم برفع معدلات الناتج الإجمالي.. تطوير القطاع الزراعي يتطلب اعتماد سياسات كفيلة بتحقيق الاكتفاء الذاتي من المنتجات الغذائية

 “البعث الأسبوعية” ــ علي عبود

من المهم أن يخرج مؤتمر يجمع المسؤولين والخبراء والفنيين بمخرجات لتطوير القطاع الزراعي الذي تراجعت مساهمته بالناتج المحلي الإجمالي بشكل حاد، منذ عام 2000. ومن المهم أيضا أن يقر مجلس الوزراء مخرجات المؤتمر والبرامج التنفيذية لتطوير القطاع الزراعي؛ لكن الأكثر أهمية الإجابة على السؤال: ما الآليات الفعالة لتطوير القطاع الزراعي ليتمكن من تحقيق الاكتفاء الذاتي وتوفير السلع الغذاية بأسعار تناسب دخل الأسر السورية؟

وعندما تؤكد جهة حكومية غياب أي إحصائية للدعم المقدم للقطاع الزراعي، فهذا يعكس واقع أن الدعم محدود جدا، وإلا كيف نفسر ارتفاع أسعار السلع إلى مستويات غير مسبوقة، وتتجاوز كثيرا القدرة الشرائية لملايين السوريين. وأكثر من ذلك، تؤكد الوقائع أنه لم يكن لدى الحكومات المتعاقبة، منذ عام 2003 على الأقل، سياسة زراعية لأنها تبنت سياسات الاقتصاد الريعي والخدمي، بديلا عن سياسات الحكومات السابقة التي تبنت سياسة الاقتصاد الإنتاجي، فهل سيصل اهتمام الحكومة الجديدة بالقطاع الزراعي إلى مستوى وضع آليات تنفيذية تتيح تحقيق الاكتفاء الذاتي؟ وهل من آليات فعالة سوى خطط خمسية تترجمها الحكومة ببرامج مادية وزمنية في موازناتها السنوية العامة؟

 

دعم غير مرئي

نعرف جيدا إن الحكومات المتعاقبة لم تتوقف موازناتها العامة عن تقديم الدعم للقطاع الزراعي، ولكن المشكلة، على مدى العقد الماضي على الأقل، أن هذا الدعم غير ملموس، أي غير مرئي، فلماذا؟

نرى أن هذا الدعم إما غير كاف، أي هو بالحد الأدنى أو أقل من ذلك بكثير، أو أنه كاف ولكن مستويات الأجور تضاءلت، ولا تزال مستمرة بالتضاؤل إلى حد لم تعد فيه قادرة على سداد احتياجات الأسر من الغذاء المنتج محليا. فأين يذهب هذا الدعم؟ بل هل هو كاف؟

إن جولة في صالات التدخل الإيجابي تكشف إن الراتب الشهري للعامل بأجر لا يكفي لشراء المنتجات التي تؤكد الحكومة أنها مدعومة جزئيا، أو بنسب كبيرة، بل يمكن الجزم إن السلع الأساسية التي كانت تُعد شعبية طارت من موائد الملايين بسبب تراجع دعمها كالفروج والبيض!

أرباب قطاع الدواجن يعانون من ارتفاع التكلفة، لأن الحكومة لا تدعمهم، مع مايعنيه ذلك من خسائر بسبب تراجع الطلب على منتجاتهم.

وإذا كانت الحكومة تدعم فعلا قطاع الدواجن بالأعلاف والمحروقات والكهرباء، فلماذا أسعار الفروج والبيض وصلت إلى مستويات غير مسبوقة لا يمكن مجاراتها إلا من قبل أصحاب الدخول المرتفعة؟

 

عام القمح مثالا

مؤخرا.. لفتنا تصريح لعضو المكتب التنفيذي لقطاع الزراعة في حماة، المهندس فاضل درويش، جاء فيه أنه “في عام القمح خسرنا القمح والشعير”.. ترى، ما أسباب هذه الخسارة التي تتكرر عاما بعد عام؟ وبسؤال أكثر دقة: هل خسارتنا لعام القمح تعود لعوامل الطبيعة، أم بفعل نقص مستلزمات الإنتاج، من محروقات وأسمدة ومياه، وأسعار مجزية لشراء المحصول؟

ومهما روجت الجهات الحكومية للظروف القاهرة التي حالت دون ترجمة عام القمح إلى شراء ثلاثة ملايين طن، فإن الواقع يكشف عن تقصير بتقديم الدعم لأهم محصول استراتيجي يستنزف استيراده القطع الأجنبي. وإذا كانت وزارة الزراعة غير قادرة على التحكم بزراعة وتسويق القمح في محافظتي الحسكة والرقة، فلماذا لم تركز اهتمامها على محافظة حماة التي تؤمّن عادة 30% من حاجة سورية من القمح؟

المعنيون بالزراعة في محافظة حماة أشاروا إلى شح الأمطار، ولكن كان يمكن تدارك الشح بري المحصول بالمحركات لو وفرت لها وزارة النفط المحروقات، وهذا لم يحصل في عام القمح.. فهل يُعقل ألا توفر وزارتا الزراعة والنفط المحروقات لمحافظة تؤمن30 % من حاجة سورية من القمح؟ ترى أين كان مجلس الوزراء من هذه المشكلة؟

بل إن اتحاد الفلاحين كشف أن المستلزمات لم تكن كافية لتمكين المنتجين من زراعة أراضيهم فماذا كانت النتيجة؟

تراجع الكميات المسوقة من القمح، في حماة، من 126 ألف طن عام 2020 إلى 116 ألف طن في عام القمح “2021”، وهي كميات متدنية جدا مقارنة بإنتاج المحافظة، في الأعوام السابقة، من هذه المادة التي بدأنا باستيرادها للمرة الأولى عام 2008؟

وبما ان وزارة الزراعة كانت مصممة على نجاح عام القمح فقد منعت زراعة الشعير واستبدلت زراعة مساحاته بالقمح، فكانت النتيجة خسارة القمح والشعير!

لقد أشار اتحاد العام للفلاحين مرارا إلى أن حالة النقص الحاصلة في مادة الأسمدة أسهمت في خلق سوق سوداء، يصل مبيع طن السماد فيها لحدود 3 ملايين ليرة، كما هو حاصل في محافظة الحسكة؛ واعتبر أن تحرير أسعار الأسمدة رفع طن سماد اليوريا لقرابة مليون ليرة. وحذّر مبكرا من أن مثل هذه الإجراءات سيكون لها أثر مباشر في تراجع الإنتاج الزراعي، وخاصة المحاصيل الاستراتيجية التي تمثل الأسمدة فيها عاملاً مهماً، وخاصة محصول القمح؛ وتوقع أن يتراجع مردود الغلة من القمح من دون أسمدة لأكثر من النصف، بخلاف التوجه المعلن من الحكومة لدعم محصول وإنتاج القمح، وإطلاق عام القمح. ورأى الاتحاد أنه إضافة إلى نقص الأسمدة وارتفاع أسعارها الفلكي، إلى جانب عدم أو صعوبة توافر بعض مستلزمات الإنتاج، ستكون مساحة الأثر كبيرة في الإنتاج الزراعي بالعموم. وتوقع أنه في حال لم يتم التدخل وإيجاد بعض الحلول لتأمين مستلزمات الإنتاج الزراعي للفلاحين وتخفيض التكاليف، ستصل كلفة كيلو القمح في العام القادم لأكثر من ألفي ليرة!

نتمنى من مجلس الشعب أن يشكل لجنة خاصة للتحقيق بأسباب فشل عام القمح، وهل هو بفعل العوامل الطبيعية، أم بفعل نقص مستلزمات الإنتاج المدعومة؟ وإذا كان الكثير من الدعم لزراعة 277 ألف هكتار من القمح أنتج 340 ألف طن فقط، بدلا من 3 ملايين طن، فنحن أمام مشكلة، فإما أن هذا الدعم الكبير لم يصل في وقته، أو أنه فعلا كبير لكنه غير كاف!

نعم.. يستحق القطاع الزراعي منا جميعاً كامل الاهتمام والحرص على نجاحه، باعتباره قاطرة تنموية حقيقية يسهم على المستوى الاقتصادي بشكل فاعل، كماً ونوعاً، في الناتج المحلي الإجمالي، كما يسهم في تثبيت الفلاحين والمزارعين في أرضهم ضماناً للاستقرار الاجتماعي، كما يستقطب هذا القطاع طيفاً واسعاً من المشروعات الصغيرة والمتوسطة ومتناهية الصغر.. كل هذا صحيح، ولا جدال فيه، لكن السؤال يبقى مطروحا وبإصرار: من تسبّب بتراجع إنتاجنا من القمح من 3 ملايين طن على الأقل إلى ما دون النصف مليون طن في الأعوام الأخيرة؟

 

تراجع الاهتمام بالزراعة

لم نكتف ذاتيا من القمح في تسعينيات القرن الماضي بالمصادفة، أو بفعل مواسم الأمطار الغزيرة، فلطالما عانت سورية من الجفاف. لقد اكتفينا ذاتيا وأصبحنا نعاني من تخزين 5 ملايين طن من القمح في العراء بفعل الدعم اللامحدود لقطاع الري، فشركاتنا الإنتاجية انخرطت منذ الثمانينيات باستصلاح الأراضي وبناء السدود وشبكات الري، وتأمين ما يكفي من جرارات وحصادات.. إلخ.

كان إنتاجنا الوفير من الحبوب، وبخاصة القمح، يعتمد دائما على المساحات المروية لا البعلية التي تنتظر الأمطار، ولكن كل شيء تغير جذريا مع تراجع الاهتمام بالقطاعات الإنتاجية، وبخاصة الزراعة، لصالح القطاعات الخدمية منذ عام 2005، وتجلى هذا التراجع بعدم بناء أي سد أو شبكات للري أو استصلاح مساحات جديدة منذ مطلع القرن الحالي. وبدأت الكوارث في القطاع الزراعي، في عام 2008، باستنزافنا لمخزوننا من القمح الذي كان يكفي لأربع سنوات، وتحولنا من مصدر إلى مستورد للقمح!

وليس سهلا العودة إلى سياسات تدعم القطاع الزراعي، فهذا الأمر لن يتحقق بقرارات ردات الفعل أو رفع شعارات غير قابلة للتنفيذ، وإنما بتبني سياسات زراعية تترجم بخطط خمسية ترصد لها الاعتمادات السنوية في الموازنة العامة للدولة، وهذا الأمر لم يحصل منذ عام 2005، وحتى الآن!

 

هل سيتغير المشهد الزراعي؟

والسؤال: هل سيتغير المشهد الزراعي القاتم في القادم من السنوات؟

تجربة وزارة الزراعة برفعها شعار “عام القمح” لم تكن موفقة بل فاشلة بامتياز. ولا ندري على ماذا تراهن وزارة الزراعة منذ عام 2011، فهي تصر على تنبؤات بإنتاج ما لا يقل عن 3 ملايين طن من القمح سنويا، ولم تصدق تنبؤاتها في أي عام حتى الآن، بل إن الإنتاج يتراجع من سيئ إلى أسوأ! ترى، ألا تستحق خسائر تجربة عقد من الزمان دراسة للأسباب؟

وزير الزراعة حسان قطنا أكد في تموز الماضي مجددا: “كونوا على ثقة أن الحكومة لن تتخلى عن الدعم الزراعي، ولن نتخلى عن مبادئنا في حماية الإنتاج والإنتاجية، ومن يظن غير ذلك فهو متوهم لأن الحكومة تتبنى القطاع الزراعي، ويجب أن يتعاون الجميع لبناء قطاع زراعي مهم، وبغير ذلك سوف نتوصل إلى كارثة نتيجتها أنه سيكون لدينا عجوزات سنوياً في إنتاج بعض المحاصيل وتأمينها”.

ولكن ما حذر منه وزير الزراعة نعيشه منذ عام 2008، أي لن ننتظر وقوعه في القادم من السنوات.. هي كارثة أن نستورد القمح بعدما كنا نصدره، وكارثة أن لا نضع سياسات زراعية تعيد القطاع الزراعي إلى أمجاده في تسعينيات القرن الماضي، وكارثة أن نستورد الأعلاف لقطاعنا الحيواني، بل هي أم الكوارث ألا تتمكن ملايين الأسر السورية في بلد زراعي من شراء اللحوم والفروج والألبان ومشتقاتها بكميات وافرة، وبما يناسب دخلها كما كانت تفعل منذ عشر سنوات..

وعندما نستورد حتى بذار البطاطا فهذا يعني أننا في خطر بفعل غياب السياسات الزراعية..

ونسأل مجددا: هل من بارقة أمل أن تتبنى الحكومة الجديدة سياسات زراعية وتترجمها بخطط خمسية تنفذها شركاتنا الإنشائية التي تحتاج إلى دعم لا محدود أيضا لبناء سورية المتجددة، كما سبق وبنت سورية الحديثة كما عرفناها حتى عام 2011؟

من المؤسف غياب أي مؤشرات حول استعداد أو توجه للعودة إلى الخطط الخمسية، والمؤشر اليتيم حتى الآن حول الاهتمام بالقطاع الزراعي أتى، في تموز الماضي، على شكل إقامة ملتقى رأى فيه الوزير أن هدفه “دراسة جميع التحديات التي تواجه القطاع الزراعي ومراجعة السياسات الزراعية المتبعة في الوزارة لوضع سياسات بديلة لإعادة النهوض بالقطاع الزراعي”.

وإذا كانت وزارة الزراعة مقتنعة أن “القطاع الزراعي هو داعم لكل القطاعات الاقتصادية – الزراعة والصناعة والتجارة الداخلية والخارجية – ولايمكن أن تعمل إلا بوجود الموارد المائية، وبظروف طبيعية مناخية يمكن من خلالها أن تحقق الاستقرار لهذا القطاع”، فإن السؤال: لماذا لا تطالب وزارة الزراعة مجلس الوزراء بوضع خطة خمسية للزراعة محورها الاكتفاء الذاتي من المنتجات الغذائية، وتأمين مستلزمات القطاعات الأخرى، كالدواجن والمواشي والصناعات المختلفة، بما يؤمن حاجة السوق، مع فائض للتصدير، كما كان الوضع في تسعينيات القرن الماضي؟

وبما أن الملتقى الأخير حول الزراعة خرج بخمسة تقارير فرعية وبتقرير رئيسي تضمن مجموعة البرامج التي سيتم العمل عليها بالمرحلة القادمة، فالسؤال: من يضمن تطبيق هذه البرامج دون خطة خمسية تلحظ لها الحكومة الاعتمادات في الموازنات العامة للدولة؟

نعم.. برامج تطوير القطاع الزراعي ستبقى مجرد توصيات ومقترحات، أي ستبقى حبرا على الورق دون خطة واعتمادات وشركات تنخرط بالتنفيذ!

أليس ملفتا أن يعترف وزير الزراعة بأنه “رغم الدعم الحكومي العلمي والتقني والفني والخدمات المساعدة المقدمة إلا أن مساهمة القطاع الزراعي بالناتج المحلي الإجمالي في تراجع منذ عام 2000، وحتى الآن”. ألا يعني هذا الاعتراف أن تراجع القطاع الزراعي لم يكن بفعل الأوضاع الاستثنائية التي تعيشها سورية منذ عام 2011 فقط، وإنما بفعل الانتقال من الاقتصاد الإنتاجي إلى الاقتصاد الريعي منذ عام 2003؟

 

تكاليف الإنتاج.. والدخل

من المؤسف أن تتحدث جهات حكومية اليوم عن إعادة هيكلية القطاع الزراعي بما يؤمن تحقيق الأمن الغذائي ودراسة تخفيض تكاليف الإنتاج لتتناسب مع مستويات الدخل وتطوير الإنتاج والإنتاجية.. والملفت – بل والمستغرب – أن يكشف وزير الزراعة أنه “لا يوجد رقم إحصائي دقيق لحجم الدعم المقدم للقطاع الزراعي.. ليس لدينا فقط، بل لدى كل الوزارات والجهات المختصة”.

ماذا يعني كل ذلك؟

يعني أن حجم الدعم غير معروف لأنه يُقرر غالبا حسب ردات الفعل لأوضاع طارئة، فهو غير محدد مسبقا بالموازنة العامة في إطار خطة واضحة سنوية، أوخمسية، وبما يحقق هدف الاكتفاء الذاتيّ، والأهم أن الدعم لا يحقق هدف تخفيض تكاليف الإنتاج الزراعي بشقيه النباتي والحيواني، بما يتناسب مع دخل ملايين الأسر السورية. وما يؤكد هذا الواقع المؤلم أن أسعار جميع السلع الغذائية، دون أي استثناء، تفوق قدرات دخل هذه الأسر.

ترى، ألا يستحق هذا الواقع تكليف هيئة تخطيط الدولة بوضع خطة خمسية، بل وعشرية، للقطاعين الزراعي والصناعي، تعيدنا إلى سياسة الاكتفاء الذاتي؟ وأن نضع أيضا برامج موازية لتطوير قطاعنا الإنشائي، أي الذراع الحكومية المؤهلة لتطوير القطاعات الإنتاجية، ولإعادة بناء سورية المتجددة.

صحيح أن مجلس الوزراء أقر بتاريخ 13/7/2021 نتائج ومخرجات المؤتمر الختامي لملتقى تطوير القطاع الزراعي والبرامج التنفيذية التي من شأنها إعادة هيكلة القطاع الزراعي وتأهيله والنهوض به وتطوير الإنتاج والإنتاجية بشكل علمي وتعزيز منهج الاعتماد على الذات وصولاً إلى تحقيق الاكتفاء الذاتي.. لكن المجلس لم يقر الآليات التنفيذية لمخرجات المؤتمر، وما من آلية فعالة للتنفيذ سوى الخطط الخمسية التي تُترجم ببرامج مادية وزمنية في الموازنات العامة للدولة.