الافتتاحيةصحيفة البعث

سورية رقم صعب لا يمكن تجاوزه

بسام هاشم
لن يكون أي حديث عن علاقات عربية عربية، اليوم، إلا أشبه بالتقليب في جسد ميت؛ فبعد عشرية سوداء دامية، عرفت الأنظمة والبلدان العربية فيها كل أشكال التآمر والتناحر بين الأشقاء والأخوة، وارتقت فيها عمليات الارتهان للخارج، والانخراط في المشاريع الأجنبية، إلى مستوى سياسات رسمية معلنة، وعلى نحو يذكر بأسوأ عصور الانحطاط، تطل عشرية أخرى قد لا تقل سواداً ودموية، نتملى فيها شرقاً أوسط غارقاً في التطرف الديني والتفتت المجتمعي والإفلاس المالي والاقتصادي والأخلاقي والعتمة الفكرية و”الكهربائية”، بحيث لا يمكن لأي مكاشفة واقعية إلا أن تفجر مزيداً من الغضب والمزيد من الأسئلة: ما الذي حدث فعلاً؟ وكيف؟ ولماذا؟ وإلى متى؟ وما هي طريق الخلاص من هذه الدوامة الجهنمية؟
تخطر كل هذه التساؤلات فيما يعاني المشرق العربي، تماماً كما هو حال المغرب العربي، من منظومة علاقات هي من التشوه والتردي بحيث لا يمكن لأقرب عاصمتين، شكلتا العصور الذهبية للتاريخ الحضاري العربي، أن تجتمعا إلا بموافقة من شخص هزيل، لا أحد يصغي إليه حتى في فرنسا، إسمه ماكرون، وفيما تضع امبراطورية عجوز، خرجت مهزومة قبل أيام على يد فلاحين فقراء بائسين خرجوا من أرياف أفغانستان، شروطها للحيلولة دون التواصل بين بلدين أبادت الأول منهما، خلال قرابة ثلاثين عاماً من الحروب والنهب ومصادرة القرار والاحتلال العسكري المباشر، وترقص فوق حطام الآخر بقوة السلاح والحصار ومحاولات التقسيم وإرهاب الدواعش، فيما تتحلق أنظمة وحكومات تابعة وعميلة حول الطاولة لـ “المشاركة” في صناعة قرار إقليمي هو، على كل حال، أبعد عن أن يكون في متناول أي منهم!!
وللحقيقة، فإن ما هو مطلوب قد لا يتعدى التقاط الصورة بحد ذاته، أو استعادة رمزية قد تذكّر، أو قد ترسل إيحاءات، بأن الشرق العربي آن له أن يدشن، بعد عشر سنوات من مشروع تدمير سورية، “لحظة يالطا” الخاصة به، وأن “دول التحالف” ما زالت تجدد الانتصارات لنفسها، وأن فرنسا وبريطانيا وأمريكا ليست امبراطوريات متهالكة ولا متداعية، وليست عالماً قديماً مثيراً للسخرية، بل قوى امبريالية تتربع على عرش القرار العالمي، قوى لا تغفر لأولئك الذين يكشفون نقاط ضعفها، أو يفضحون الأعمال الدنيئة وغير الأخلاقية التي تقترفها كل لحظة، وكل يوم، إمبراطوريات جريحة هي هياكل هشة، قوتها عسكرية محضة، والقيم التي تدعي دعمها والدفاع عنها، عادة باسم الحضارة والتفوق، ما هي إلا قناع للنهب، والاستغلال، والعنف العشوائي، وإرهاب الدولة المنظم. ولكن هذه الإمبراطوريات أُهينت في أفغانستان، كما أهينت في سورية والعراق وليبيا، كما أهينت في خليج الخنازير وفيتنام، هي قوى عمياء عن واقع جبروتها المتدهور وعجزها وتوحشها، تضرب مثل حيوان جريح، وترسم مشروع انتحارها الذاتي من خلال إدمانها على تكرار الفشل، متشبسة عبثاً بوهم قدرتها على إعادة تشكيل العالم، وشرق أوسط اليوم، على صورتها الخاصة.
ما ينبغي أن يكون مؤكداً هو أن منطقتنا اليوم تجتاز قطوع الوقت الضائع الذي عادة ما يسبق إعادة النهوض والتأهب الشامل، فالشرق العربي أنجز ثورته السياسية والمجتمعية التي ينبغي أن ترمي به في أتون حقبة جديدة تمكنت من استيعاب أصعب الدروس وأقسى المحن، ولم يعد أمامها إلا أن تقذف بنفسها بقوة في حضن حداثتها الخاصة والذاتية. وإذا كان العراق وسورية لا يستطيعان الاجتماع معاً، لأن الفيتو الوهابي والأطلسي والعثماني الجديد لا زال قائماً، فلأن بعض الهياكل الديناصورية لا تزال على تحجرها وغبائها وانفصالها عن الواقع.. أمر واحد يدركه هؤلاء في الفوضى والاستقرار على حد سواء، وهو أن سورية قد لا تستطيع فرض إرادتها الخاصة على الآخرين، ولكنها رقم صعب لا يمكن تخطيه أو تجاوزه، حاضرة كانت أم غائبة.