الصفحة الاخيرةصحيفة البعث

الأعلام الكبار..!

حسن حميد

أتألمُ إلى حدّ الوجع غير المحتمل، حين أرى الذكر الطفيف لأعلام كبار من الأدباء والفنانين وأساتذة الجامعات الذين بنوا ثقافة دولة الاستقلال العربية، ولاسيما في اتجاهين رئيسيين اثنين، أولهما: محو توجهات الثقافة الاستعمارية التي أرادت الحقبُ الاستعمارية أن تفرضها علينا بوصفها الدرب الوحيد الذي سيصل بنا إلى ما نتمناه حضارياً كما زعموا، وثاني الاتجاهين هو بناء ثقافة وطنية قومية إنسانية تستند في جوهرها إلى جذورنا الحقيقية في التاريخ، والاجتماع، والعقيدة، ثقافة تعبّر عن شخصيتنا الحضارية التي لا زيف فيها ولا دخيل ولا التواءات. إن الهمس الخفيف ذكراً لأصحاب التجارب المعرفية الثقيلة من مبدعينا، وفي مناسبتي الولادة والوفاة لهو شكل من أشكال /رفع العتب/ مع أن هاتين المناسبتين، الولادة والوفاة، تشكلان الفرصة الذهبية سنوياً من أجل مراجعة هذه التجارب وما فيها من إبداع ومضايفات، وما فيها من تجليات واشتقاقات من جهة، وما فيها من نافل وهامشي من جهة أخرى، ولكن مثل هذا الأمر لا يحدث إلا على نحو ضيّق ونادر، ولهذا تظلَّ فضيلة النقل من فلان إلى فلان سارية مثل السواقي التي شحّ ماؤها وقلَّ، والمطلوب هو التعمّق أكثر كي ندوّن تحقيباً علمياً تشارك في تدوينه العقول النابهة بعيداً عن الأغراض والغايات قصيرة الأعناق، مطفأة البصر.

ها نحن نتحدث منذ قرن من الزمن تقريباً عن شعراء مثل أحمد شوقي، وأبو قاسم الشابي، وحافظ إبراهيم، وإبراهيم طوقان، ومعروف الرصافي.. خلال مناسبتي الولادة والوفاة، فنقف عند الطفيف الخفيف من مراجعات لا جديد فيها من قول بسبب النقل الضرير، أما المطلوب فهو تحقيب علمي، ونقدي، ومعرفي يقول لنا ما هي أهمية هؤلاء الشعراء، وما هي قيمتهم الإبداعية، وإلى أي المرتكزات استندوا حين أجادوا، وأين أخفقوا حين تعثروا.

بل إن أجيالاً من رواد الفن التشكيلي الذي تعلموا في جامعات الغرب، وقد رحلوا منذ أزمنة بعيدة، لا يذكرون إلا الذكر العابر، وهم الذين أسّسوا أقسام الفنون الجميلة في الجامعات العربية، مثلما أسّسوا مفهوم الثقافة الجمالية.

وهكذا هي الحال حين نتحدث عن فنون الأدب الأخرى، فالمرور البرقي الخاطف هو هو، والحديث عن السيرة الذاتية المحفوظة هو هو أيضاً، أما الجديد فهو غائب أو نادر، ومن أسف أن هذا لا يحدث في مشهد ثقافي عربي واحد، بل يكاد يحدث في جميع المشاهد الثقافية العربية الأخرى، إذ من يذكر جبرا إبراهيم جبرا في الثقافة العربية، وما قدّمه من تجربة أدبية وفنية تكاد تكون واحدة من أهم التجارب الإبداعية في العالم، ومثله أيضاً جورج سالم وعبد الله عبد وسعيد حورانية الذين أرسوا القواعد المتينة لفن القصة القصيرة ليس في المشهد الثقافي السوري فحسب، وإنما في سائر المشاهد الثقافية العربية.

والحال نفسها، وهي هي، حين نتحدث عن فنون السينما والمسرح والموسيقى والغناء والعلوم والترجمة واللغة، إذ من يذكر الآن الأعلام الكبار الذين بنوا أركان اللغة العربية في الجزائر كبديل لتسيّد اللغة الفرنسية، وكيف، وبأي الوسائل والجهود والعزائم قلبت الحال رأساً على عقب بعد هجر للغة والتاريخ العربيين دام أكثر من مئة وثلاثين سنة.

أقول هذا كي لا يبقى ذكر الأعلام، أصحاب الأيدي البيض، والعقول النابهة، مجرد سطور تذكر بالمناسبات ذكراً خلواً من العمق، والمضايفة الجديدة.

Hasanhamid55@yahoo.com