مجلة البعث الأسبوعية

أبناء الحياة يضخون الأمل في 13.5 ألف مدرسة.. ما دمرته أيادي الإرهاب رممه إصرار الأطفال

“البعث الأسبوعية” ــ ريم ربيع

تستذكر دعاء (18 عاماً) سنوات دراستها الماضية وهي تحزم حقيبتها للتوجه لبدء عامها الأخير في المدرسة. “لم تكن دراستي كما أشقائي الأكبر سناً مني”، تقول دعاء بلهجة من انتصر على ظروف قاسية، وتبتسم أمام والديها قائلة: “ها أنا درست بظروف أقسى وأخطر من ظروفكم وتفوقت “على ضوء الشمعة”.. أيضاً.

تمكنت دعاء من هزيمة مشاعر القلق التي راودتها في مراحل دراستها، سواء الخوف من القذائف الطائشة، أو الظروف غير المستقرة، وأخيراً الأوضاع الاقتصادية القاسية، ليكون ختامها مع فيروس كورونا، فلم تكن هذه الأسباب كافية لتتوقف عن الدراسة أو تهملها. تخرج الشابة المتفوقة من خزانتها حزمة من الجلاءات المدرسية تتصفحها وتقول: مجمل أيام غيابي خلال السنوات الست الماضية لا يتعدى عشرة أيام، فكنت كما بقية زملائي مواظبة على حضور جميع الدروس مهما اشتدت قسوة الظروف، وكنا نرى في التزام معلمينا دافعاً إضافياً للحضور أيضاً، فتمكنت من النجاح وبتفوق، وها أنا اليوم استعد لأحصل على شهادة الثانوية العامة لأدرس كلية الطب من بعدها.

 

التزام متبادل

دعاء ليست حالة خاصة أو نادرة، بل هي نموذج يمثل ملايين الطلاب الذين التزموا بمقاعد الدراسة مثلما التزمت الدولة باستمرارية العملية التدريسية وتأمين احتياجاتها، وخلافاً للمتوقع سجلت السنوات الأخيرة زيادة واضحة في عدد المتفوقين، ولعل نتائج الثانوية العامة وعدد الطلاب المسجلين في الجامعات خير دليل على ذلك.

 

ضخ الحياة فيها..

اليوم عادت الحياة إلى أروقة واحدة من 13500 مدرسة على امتداد الجغرافية السورية، بعد استقطاب حوالي 4 ملايين طالب وطالبة إليها في الوقت المحدد دون تأخير أو تململ في بدء العملية التدريسية، فكانت تحية العلم السوري صباح الأحد 5 أيلول إيذاناً بانطلاق عام جديد يحمل طمأنينة واستقرار أمني في أغلب المحافظات، وكان لافتاً هذا العام إصرار الأهالي في المحافظات الواقعة تحت سيطرة الإرهاب كادلب والحسكة والقامشلي على تحدي كافة الظروف وإرسال أطفالهم إلى المدارس في المناطق المجاورة المحررة ليتلقوا فيها المناهج الوطنية، بعد أن عاينوا عن قرب الفكر الإرهابي الذي تحاول بعض الميليشيات دسه في عقول الأطفال.

 

تحدٍّ

يحمل الطلاب في توجههم إلى مدارسهم اليوم أملاً استمدوه من أشقائهم الأكبر سناً أو أهاليهم أو أصدقائهم، الذين لم يتوقفوا يوماً واحداً عن ممارسة حياتهم الطبيعية وحقهم بالتعليم والعمل، وقرع أجراس المدارس كل عام في ذات الوقت أرسل رسالة واضحة إلى القريب والبعيد باستمرارية الحياة بأهم القطاعات وأكثرها حيوية وملامسة لكل بيت، حيث فشلت جميع المحاولات بضرب العملية التدريسية وإيقافها عبر تخريب المدارس، وما طالها من قذائف أثناء وجود الطلاب فيها، والاعتداء المباشر على الطلاب والمعلمين وارتقاء شهداء منهم في جميع المحافظات.

حتى محاولات خصخصة قطاع التعليم لم تفلح مع من حاول استغلال بعض الظروف لتطبيقها، حيث شدّد رئيس الحكومة حسين عرنوس خلال مجلس اتحاد العمال على التزام الدولة بمجانية التعليم والحفاظ على المدارس الحكومية وتطويرها، كاشفاً أنه بعد تضرر عدة مدارس بدمشق خلال الحرب، تهافتت عشرات العروض لترميمها شرط تحويلها إلى مدارس خاصة، فكان الرفض جواباً على كل ما قدم من عروض، والتزمت الحكومة بترميم تلك المدارس وهاهي اليوم عادت لتستقبل طلابها كما السابق.

 

استعدادات

بجميع المستلزمات والإجراءات استعدت المؤسسة التربوية لاستقبال طلابها، عبر طباعة الكتب وترميم المدارس في المناطق المحررة، واستكمال الإجراءات اللوجستية، فضلاً عن خطة جديدة لتطوير العملية التربوية وتعويض الفاقد التعليمي وتطوير التعليم عن بعد، كما لم تغفل وزارة التربية مخاطر فايروس كورونا فعملت على بروتوكول جديد بدأ بتلقيح الكوادر التربوية، وتوزيع مستلزمات التعقيم ومحاولة الحفاظ على التباعد المكاني قدر الإمكان.

ولم تنس وزارة التربية صعوبة الظروف المعيشية وتأمين احتياجات الطلاب فتساهلت معهم ولم تتشدد باللباس المدرسي، وتم إعطاء مديري المدارس حرية التصرف وفق البيئة لكل مدرسة، كما منحت الموافقة لتأمين الحقائب والدفاتر والقرطاسية من قبل المجتمع المحلي.

 

مبادرات أهلية

وفي الحديث عن المجتمع الأهلي لا بد من الإشارة إلى جهود ومبادرات بالمئات انطلقت قبل موعد المدارس لتأمين المستلزمات إلى الفئات المحتاجة، فلم تخل قرية أو منطقة أو محافظة من مبادرة مجتمعية لمساعدة الأسر الفقيرة، دون أن نغفل ما قدمته بعض الجمعيات في دمشق وغيرها من محافظات للمساهمة في ترميم المدارس المتضررة، ومدّها بالتجهيزات اللازمة لافتتاحها مجدداً، وهي خطوة نلحظ توسعها مع كل عام بعد تزايد الوعي بأهمية دور المجتمع الأهلي وما يمكن أن يقدمه.

 

استمرارية

لم تكن الخسائر الجمة التي تعرض لها قطاع التعليم منذ بداية الحرب في سورية أمراً اعتباطياً، بل واجه كما قطاعات الطاقة والصحة والصناعة وبقية القطاعات خطة ممنهجة للتدمير تجاوزت الحدود المادية والعمرانية، فكان الهدف إحداث خلل بنيوي في البنية التعليمية لطلاب سورية، واستغلال تلك الفجوات لاستقطابهم إلى العمليات الحربية والعسكرية وزجهم كدروع بشرية في عملياتهم الإرهابية، حيث تناقص عدد المدارس بين عامي 2010-2017 حوالي 35%، أي من 21.525 ألف مدرسة إلى 14.008 ألف مدرسة، إلا أن ذاك التدمير لم يحل دون استمرارية العملية التدريسية حتى في أقسى الظروف، فبعض المدارس استمرت ولو في صف واحد وبمعلم واحد.!

الإصرار على استمرارية التدريس وعدم توقفه كان واضحاً في الضخ الدائم لدعم إعادة إعمار المدارس لاسيما في المناطق المحررة، فكانت النتيجة بترميم 3500 مدرسة تقريباً خلال السنوات السبع الأخيرة، وبتكلفة بلغت مليارات الليرات تساوت في معظم الأحيان مع تكلفة إعمار منشآت أو مصانع جديدة، حيث لم تقل إحداها أهمية عن الأخرى، بل كان العمل على التوازي في ترميم المدارس كما المصانع، والجامعات كما المؤسسات الحكومية، في رسالة واضحة إلى نهج الدولة السورية بدعم التعليم والحفاظ عليه في مختلف الظروف.

 

رسائل واضحة

ولعل في عودة التعليم إلى المناطق المحررة من محافظة ادلب الرسالة الأقوى لهذه العام، حيث وصل عدد المدارس فيها إلى 72 مدرسة في كل من (خان شيخون، المعرة سنجار، سراقب أبو الظهور) استقبلت ما يقارب 6000 طالب وطالبة لتدريس المناهج الوطنية التي يدرسها كل أطفال سورية بمساعدة 600 مدرس، وذلك رغم أنف محاولات المجموعات الإرهابية المدعومة من تركيا لإحداث شلل في المحافظة وتدمير المناهج الوطنية والاستمرار بسياسة التتريك ونشر مناهج لا تمت للهوية السوية السورية بصلة، فكان رد وزير التربية دارم طباع خلال افتتاح العام الدراسي الجديد في حلب بأنه: “لا يجوز لأحد أن يدرس غير المنهاج الوطني لأننا نبني إنساناً والإنسان الوطني السوري يحب أن يحمل المنهاج الوطني السوري، فلا يجوز أن نحمل هويات غير هوياتنا”.

 

رغم التهديد

تجهيز المدارس في خان شيخون لم يكن بقرار حكومي وحسب بل أيضاً جاء بناء على مبادرة الأهالي العائدين إلى منازلهم بعد تحريرها بطلب ترميم المدارس لضمان استمرارية تعليم أبنائهم وإصرارهم على إرسال الأطفال رغم تعرضهم للتهديد المباشر في كثير من الأحيان، فجاء بعدها تأهيل وترميم لعدة مدارس وتقديم كل ما يلزم من فرش وأثاث للمدرسة، ومقاعد دراسية وألواح طاقة شمسية حتى.

وكما ادلب واجهت محافظة الحسكة ضغوطات قاسية وصلت إلى احتلال ألفي مدرسة من قبل ميليشيات “قسد” الانفصالية، وحرمان 200 ألف طالب من الوصول إلى مدارسهم التي يصر الأهالي على الوصول إليها بأي ثمن، وتدريس أطفالهم المناهج الوطنية.

 

إعمار الإنسان..

تبقى اليوم الرسالة التعليمية هي الأهم والأشد ضرورة من بقية الأولويات في الإنتاج والزراعة والصناعة وإعادة الإعمار، فهي الوحيدة القادرة على تأسيس جيل جديد على قدر كبير من الوعي تبدأ منه عملية إعادة إعمار الإنسان، حتى لا يكون الأطفال فريسة سهلة للضخ الإرهابي ولترميم ما تعرضوا له من محاولات لتشويه ذاكرتهم.