مجلة البعث الأسبوعية

أفغانستان.. “الحرب الأمريكية على الإرهاب” بدأت فعليا عام 1945 ؟!

“البعث الأسبوعية” ــ هيفاء علي

مع اقتراب الذكرى العشرين لهجمات 11 أيلول، التي كانت الذريعة لدى إدارة جورج بوش الابن لإطلاق العنان لحربه العالمية المزعومة على الإرهاب، والتي دشنها بغزو أفغانستان لمحاربة حركة طالبان، خرجت القوات الأمريكية من كابول بعد عشرين عاما إثر هزيمة نكراء مع حلفائها من الناتو، وهي تجر ذيول الخيبة، وتفتح الطريق أمام عودة طالبان للسيطرة على البلاد.

ومع عودة طالبان إلى السلطة، ربما ستستخدم إدارة بايدن ذريعة جديدة لشن حرب جديدة، وبالتالي ربما نسمع قريباً عن أحداث 11 أيلول، الحجة المفبركة التي استخدمتها إدارة بوش الابن قبل عشرين عاماً، حيث لم تتح الفرصة لعناصر طالبان، آنذاك، للدفاع عن أنفسهم. وعندما يحين وقت الإدلاء ببيان سياسي، قد يتم توجيه أصابع الاتهام إلى بعض المسؤولين الصينيين بأنهم وراء الهجمات!! وبناء على ذلك سترد الإدارة الأمريكية بحملة دعاية مكثفة ضد الصين. وبحسب احد المحللين الأمريكيين، فقد كانت هجمات 11 أيلول عرضا مسرحيا بامتياز قدمه وأخرجه صقور البيت الأبيض من المحافظين الجدد، حيث لم يقتصر الأمر على جعل ناطحات السحاب تختفي وسط سحابة من الدخان بفعل كلمة سحرية “اسامة بن لادن”، بل جعلوا الطائرات تظهر وتختفي كما لو أن الأرض ابتلعتها أو تبخرت في سماء البنتاغون.

حقيقة، أدى الاعتراف الأخير بهزيمة الولايات المتحدة في أفغانستان إلى حشد الصحافة الغربية الليبرالية، التي طالبت الرئيس جو وصناع القرار الأمريكيين بعزم إمبريالي أكبر، وبزيادة التغطية الإعلامية الغربية المعادية للإسلام. وتتجاهل هذه الاعتبارات التاريخ الأمريكي المضاد للثورات والحروب التي شنتها الولايات المتحدة في جميع أنحاء العالم منذ الحرب العالمية الثانية لتأكيد السيطرة الإمبراطورية على حساب ملايين الأرواح.

ففي سبعينيات القرن الماضي، أطاحت 14 ثورة مناهضة للاستعمار ومناهضة للديكتاتورية، في أفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية، بالأنظمة الغربية والموالية للغرب لتحقيق ديمقراطية اجتماعية واقتصادية تم قمعها بمساعدة ساحقة من القوى الاستعمارية الأمريكية والأوروبية.. أدى ذلك إلى حروب كبرى بدأتها الولايات المتحدة وحلفاؤها ضد الحكومات الثورية الجديدة.

ففي إثيوبيا، أطاح مدبرو الانقلاب الثوري بالإمبراطور هيلا سيلاسي، في عام 1974، وقطعوا العلاقات العسكرية بين إثيوبيا والولايات المتحدة، عام 1977. ودعمت الولايات المتحدة وبعض شركائها من الأنظمة العربية غزو الصومال من قبل إثيوبيا في نفس العام، على أمل استعادة السيطرة الأمريكية.

أرسل السوفييت الأسلحة، وتم نشر القوات الكوبية للمساعدة في تأمين الحكومة الثورية الجديدة في إثيوبيا. خلال هذا الوقت، تحول الصومال إلى قاعدة عسكرية أمريكية ووجد نفسه غارقاً في حروب لا نهاية لها، لم يتعاف منها حتى يومنا هذا.

ضربت الثورة أيضاً أوروبا الجنوبية، حيث أطاح البرتغاليون بنظام سالازار الفاشي المدعوم من الغرب ما أدى إلى انتصار نضالات التحرر المستمرة في المستعمرات الأفريقية في البرتغال. حرر الثوار أنغولا وموزمبيق وغينيا بيساو والرأس الأخضر وساو تومي. وسيؤدي سقوط النظام البرتغالي وتحرير المستوطنات الأفريقية، ولا سيما موزمبيق وأنغولا، إلى إضعاف مستعمرة روديسيا الإنجليزية المجاورة، حيث يهيمن البيض، ما سيؤدي إلى انتصار العصابات الثورية في عام 1980 وتأسيس زيمبابوي.

 

البروباغندا الأمريكية

نظراً لأن هذه الثورات أعطت أيضاً دفعة للنضال التحرري ضد سيطرة البيض في ناميبيا، التي احتلها واستعمرها نظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا. أطلقت الولايات المتحدة وجنوب أفريقيا وزائير، التي كان رئيسها، موبوتو سيسي سيكو، مدعوما من الغرب ، تدخلات عسكرية في أنغولا من أجل تدمير ثورتها وكفاحها التحرري، والحفاظ على التفوق الأبيض في ناميبيا وجنوب أفريقيا..

أدى ذلك إلى وصول القوات الكوبية للدفاع عن الثورة الأنغولية، بينما قدم السوفييت وجمهورية ألمانيا الديمقراطية تدريباً للمقاتلين المناهضين للاستعمار الذين قاوموا الفصل العنصري في جنوب أفريقيا المدعوم من الولايات المتحدة.

بعد فترة وجيزة، دعمت حكومة جنوب أفريقيا، بمساعدة الولايات المتحدة، الثورة المضادة في موزمبيق أيضاً.

وفي الهند الصينية، على الرغم من حجم الإبادة الجماعية لآلة القتل، لم تتمكن الولايات المتحدة من هزيمة النضالات الثورية التي انتصرت في النهاية في فيتنام وكمبوديا ولاوس، عام 1975.

في عام 1979، أطاحت ثورة هائلة في إيران بدكتاتور بارز مدعوم من الولايات المتحدة، هو شاه إيران، بينما أدى انقلاب في أفغانستان المجاورة إلى وصول حكومة شيوعية جديدة إلى السلطة، في نيسان 1978.

وعلى النقيض من الدعاية الأمريكية، لم يلعب السوفييت أي دور في أي من هذه الثورتين، ولم تقدم الولايات المتحدة أي دليل على تورطهم، وسارعت لرعاية ثورة مضادة في إيران وأفغانستان وطلبت مساعدة باكستان المجاورة في الحالة الأخيرة. وفي أمريكا الوسطى ومنطقة البحر الكاريبي، هزم النضال التحرري الديكتاتور المدعوم من الولايات المتحدة في نيكاراغوا، في تموز 1979، واستولت حركة “الجوهرة الجديدة” على السلطة في غرينادا في انتفاضة مسلحة.

أدت هذه الأحداث إلى تكثيف القمع الذي ترعاه الولايات المتحدة ضد النضالات الثورية في السلفادور وغواتيمالا المجاورتين، ورعاية الثورة المضادة وغزو نيكاراغوا، والغزو المباشر من غرينادا من قبل الولايات المتحدة في عام 1983 للإطاحة بالحكومة الجديدة.

 

حرب صليبية ضد السوفييت

عندما تطلق الولايات المتحدة العنان لغزواتها العسكرية وتستعين بمصادر خارجية لحلفائها للقيام يالشيء نفسه، فهي بذلك تعد العدة لاستهداف دولة ما مثل أفغانستان، خاصةً أنها متاخمة لحدود الاتحاد السوفييتي. وفي حين أن لدى الولايات المتحدة دول تابعة على الحدود الجنوبية لاتحاد الجمهوريات الاشتراكية السوفييتية، ومن بينها تركيا العضو في الناتو وإيران، فإنها لم تكن قادرة على تغيير حياد الهند.

كانت الصين قد أصبحت عدواً للسوفييت قبل سنوات من ذلك. بقي فقط أفغانستان التي ظلت محايدة خلال الحرب الباردة. ولكن عندما قام الشيوعيون الأفغان بانقلاب واندفعوا نحو إصلاحات طائشة ومتسرعة في بلد يعاني من الفقر المدقع والأمية والقمع، اندفعت الولايات المتحدة إلى الأمام لتعلن ترحيبها بالأفغان الساخطين الذين عارضوا الإصلاحات داعية شركاءها المحليين إلى الإطاحة بالنظام..

دفع هذا الحكومة الأفغانية إلى دعوة القوات العسكرية السوفييتية في كانون الأول 1979 لحماية النظام الثوري.

قصة تورط الولايات المتحدة في أفغانستان هي أيضاً جزء من التاريخ الغريب للجهود الإمبريالية الأمريكية للسيطرة على الدول العربية، والدول ذات الأغلبية المسلمة. تبدأ القصة بإدارة ترومان، التي أصبحت مهتمة في البداية بـ “الإسلام”، وبحثت عن زعيم مسلم يقود حملة صليبية ضد السوفييت.

تبنى مجلس الاستراتيجية النفسية، الذي شكله ترومان برنامجاً في شباط 1953، بعد وقت قصير من تولي أيزنهاور منصبه. أكد هذا البرنامج أنه “خلافاً للاعتقاد السائد في الغرب.. لم يكن الإسلام عائقاً طبيعياً أمام الشيوعية. فالكثير من الإصلاحيين الذين تولوا السلطة في هذه البلدان وضعوا الاقتصاد قبل الدين، الأمر الذي أدى إلى إضعاف دور الدين وجعل المنطقة عرضة لخطر الشيوعية”.

في عام 1953، كتب إدوارد بي ليلي، كبير استراتيجيي الحرب النفسية في عهد أيزنهاور، مذكرة بعنوان “العامل الديني”، دعا فيها الولايات المتحدة إلى استخدام الدين بشكل أكثر وضوحاً في نضالها ضد الاتحاد السوفييتي، وأقر بأن استخدام الإسلام كإحدى وسائل الوصول إلى عشرات الملايين من المسلمين السوفييت يعود بالنفع على الولايات المتحدة.

وصلت المذكرة إلى مجلس الأمن القومي في عام 1954. وفي السياق نفسه، استقبلت وزارة الخارجية، في أيلول 1953، وفدا كبيرا من “العلماء المسلمين المتميزين” في مؤتمر حول “الثقافة الإسلامية” نظم في جامعة برنستون، ومن ثم دعت المجتمعين إلى البيت الأبيض.

في عام 1954، أرسلت وكالة المخابرات المركزية جواسيس محرضين إلى مكة، أثناء الحج، لإثارة المشاعر المعادية للسوفييت بين الحجاج السوفييت. وكان عملاء وكالة المخابرات المركزية من المسلمين السوفييت المتعاونين مع النازيين، والذين عملوا سابقاً مع النظام النازي لتعبئة المسلمين السوفييت ضد حكومة بلادهم، خلال الحرب العالمية الثانية.

ورثت الولايات المتحدة واستخدمت فريقاً كاملاً من الجواسيس النازيين وضباط الارتباط الذين عملوا في وزارة الرايخ للأراضي الشرقية المحتلة (أوست مينستيريوم). وفي الواقع، سيتم إرسال أحد العملاء المتعاونين مع النازيين، الذين أرسلتهم وكالة المخابرات المركزية إلى مكة، في العام التالي، إلى مؤتمر باندونغ، في إندونيسيا، لنشر الدعاية ضد الاتحاد السوفييتي وسوء المعاملة المزعوم التي تسبب بها للمسلمين السوفييت، بهدف تقويض موقف الاتحاد السوفييتي بين دول عدم الانحياز.

 

عقيدة أيزنهاور

في كانون الثاني عام 1957، أعلن الرئيس أيزنهاور “عقيدة أيزنهاور”، وأعلن أن الولايات المتحدة ستأتي لمساعدة أي دولة في الشرق الأوسط مهددة بالشيوعية. وفي اجتماعات خاصة مع فرانك ويزنر، من وكالة المخابرات المركزية، وهيئة الأركان المشتركة، أصر أيزنهاور أن على العرب أن يسترشدوا بدينهم لمحاربة الشيوعية، وأن “علينا أن نفعل كل ما هو ممكن للتأكيد على الحرب المقدسة”.

كان أيزنهاور حريصاً على دعم السعوديين كثقل موازن للرئيس المصري آنذاك، جمال عبد الناصر. كانت خطة أيزنهاور هي أن الملك السعودي “يمكن أن ينصب، في نهاية المطاف، كزعيم روحي. وبمجرد تحقيق ذلك، يمكننا أن نبدأ في الإصرار على حقه في أن يكون قائداً سياسياً”.

وتحقيقا لهذه الغاية، نظم ولي العهد السعودي الأمير فيصل مؤتمرا إسلاميا دوليا في مكة، عام 1962، لمكافحة القومية العربية والاشتراكية و”العلمانية”، وأطلق رابطة العالم الإسلامي. وردا على محاولة فيصل استبدال الوحدة العربية بالوحدة الإسلامية، اتهم ناصر التحالف الإسلامي الجديد بأنه “مؤامرة أمريكية بريطانية لتقسيم العالم العربي وتقويض الآمال العربية في الوحدة”.

وكانت صحيفة “تريبيون شيكاغو” قد احتفلت وهللت في افتتاحيتها بمشاركة مجموعات إسلامية اندونيسية في مجزرة قتل فيها مليون من الشيوعيين في اندونيسيا، عام 1965، عقب انقلاب رعته ومولته الولايات المتحدة. وبمجرد أن عزز سوهارتو المعادي للثورة سلطته في جاكرتا، وضع المكابح على الجماعات الإسلامية، على الرغم من أن البعض الأكثر تطرفاً منهم استمر كقوة مناهضة للشيوعية. وفيما بعد، سوف ينضم هؤلاء إلى الجهود المناهضة للسوفييت في أفغانستان في السبعينيات والثمانينيات.

في أواخر السبعينيات، كانت الولايات المتحدة، بالشراكة مع السعوديين، وكذلك مع الرئيس المصري أنور السادات، تقوم بالفعل بتجنيد وتمويل وتدريب الإسلاميين من أفغانستان إلى باكستان، في جميع أنحاء العالم، من أجل إعدادهم للمعركة النهائية ضد السوفييت.

في حين أن تورط الولايات المتحدة ووكالة المخابرات المركزية في أفغانستان يعود إلى الستينيات، بدأت الصحافة الغربية، منذ عام 1978، تتحدث بعبارات متعاطفة للغاية عن “المتمردين المسلمين المعادين بشدة للشيوعية” في أفغانستان، وفي معسكرات التدريب في باكستان الذين يحتاجون إلى المزيد من الأسلحة.

كانت هذه السياسة الأمريكية، بتشجيع من حلفائها الفرعيين: السعودية وباكستان، هي التي أدت إلى إنشاء طالبان والقاعدة وتنظيم الدولة الإسلامية “داعش” من صفوف الإسلاميين المتطرفين الذين صنعتهم واستقدمتهم وودربتهم الولايات المتحدة التي ساعدت المجاهدين الأفغان على السيطرة على أفغانستان في عام 1992.

لم تحارب طالبان والقاعدة الولايات المتحدة إلا عندما انقلبت عليها بعد سقوط السوفييت، على الرغم من تجنيد مقاتلي القاعدة والدولة الإسلامية “داعش”، مرة أخرى، للحروب الدائرة حاليا في العراق وسورية واليمن وليبيا، برعاية الولايات المتحدة.

وبدلاً من إعادة النظر في الإرهاب المضاد للثورة الذي حكمته الولايات المتحدة في أفغانستان وبقية العالم، منذ الحرب العالمية الثانية، فإن الصحافة الليبرالية الغربية مشغولة للغاية برثاء التدهور التدريجي للإمبراطورية، وفي مهاجمة قيادة بايدن بسبب افتقاره للزعامة الإمبريالية.