مجلة البعث الأسبوعية

الانتقال من “إدارة العرض” إلى “إدارة الطلب”.. خيار يفرض نفسه كمصدٍ لخطر شح الثروة المائية

“البعث الأسبوعية” ــ ذكاء أسعد

مما لاشك فيه أن الأمن المائي مرتبط ارتباطاً وثيقاً بالأمن الغذائي، ما يستوجب بالمحصلة التعامل معهما كتوءم أو أنهما جزء لا يتجزأ في حال اعتدنا العدة للارتقاء بملف الإنتاج الزراعي ككل، من خلال حُسن استخدام جميع الموارد المائية المتاحة وتطوير أساليبها بالتوازي مع البحث عن موارد أخرى جديدة، بما لا يؤثر على استنزاف المخزون الجوفي.

وإذا ما علمنا أن معظم الدول العربية ومن بينها سورية تنضوي تحت خط الفقر المائي المحدد بـ 1000 م3 للفرد سنوياً، فإننا أمام واقع يتطلب اجتراح حلول لا تضمن الحفاظ على الثروة المائية فقط، بل وتُؤمّن مصادر مائية جديدة. ورغم أن الوضع المائي في سورية حاليا ليس كما يجب، لكن يمكن استدراكه والحفاظ على الحد المطلوب مبدئيا، وذلك من خلال تحسين كفاءة استخدام المياه الحالي والانتقال من إدارة العرض إلى إدارة الطلب، ففي الفترة الماضية كانت سياسة الدولة تعمل على تنمية المصادر المائية عبر بناء بنية تحتية كبيرة (سدود – قنوات – محطات تنقية.. إلخ) بهدف تزويد مستخدمي المياه، أما الآن فعلى الدولة أن تنتقل إلى إدارة الطلب، أي بمعنى كيفية إدارة المياه المتوافرة لدينا بأفضل صورة ممكنة.

 

حصاد المياه

لعلّ حديث معاون مدير الزراعة في حماة الدكتور صطام الخليل حول حُسن إدارة واستخدام الموارد المائية، يستحق الوقوف عنده، إذ شدد من خلال حديثه لـ “البعث الأسبوعية” على ضرورة الاستفادة القصوى من مياه الأمطار الهاطلة واستثمارها بالشكل الأمثل، وذلك عن طريق تقنية “حصاد المياه”، والتي تستخدم في حجز وتخزين مياه الأمطار في فترات سقوطها، وبطرق تختلف باختلاف الغاية من تجميعها ومعدلات هطولها، وإعادة استخدامها عند الحاجة سواء للشرب أم للري التكميلي، أم لتغذية المياه الجوفية.

وأوضح الخليل أن هذه التقنية كفيلة بتوفير مصدر مائي بحوالي 16% من المياه التي يستخدمها المواطن، فاستغلال مياه الأمطار من خلال الحصاد المائي من أسطح المنازل على المدى القريب، وإنشاء السدود والحواجز الترابية على المدى البعيد سيجعل من الزراعة أمراً ممكناً رغم قلة الموارد المائية، وسيخفف بالنتيجة من التدهور البيئي وانجراف التربة، وسيحفظ المياه الجوفية.

وبين الخليل أن تقنية الحصاد المائي تكون على ثلاثة مراحل: أولها “منطقة حجز المياه” ويقصد بها حجز المياه بشكل مؤقت تمهيدا لنقلها لمنطقة التخزين، وثانيا “وسيلة التخزين” وهو المكان الذي تحتجز به المياه من وقت جمعها حتى استخدامها، وتختلف أحجام هذه الأماكن تبعا لكمية الهطل المطري السنوي فقد تكون من خلال حفر أرضية كبيرة أو خزانات إسمنتية أو بلاستيكية لجمع ما أمكن من مياه الأمطار، وأخيرا “نظام نقل المياه من الخزانات إلى مناطق الاستخدام”.

 

تقليدية

لا شك أن منطقة سهل الغاب غنية بمصادر الموارد المائية على مستوى سورية، لكن يبقى السؤال حول ماهية استثمار هذه الموارد، ليوضح مدير الري في الغاب، المهندس حسان المحفوض، أن هذه الموارد تتكون من ينابيع الغاب الشرقية والغربية، والمصرفين A وB، وسدي محردة والرستن. ويقدر الاحتياطي المائي الكلي السنوي لحوض الغاب بحدود 500 مليون متر مكعب يروي حوالي 80 ألف هكتار، أي أن معدل الاحتياج الوسطي 6000 متر مكعب في العام، مشيراً إلى أن مياه الري تستثمر من خلال ثلاث مشاريع وهي شبكة ري صرف الغاب وتروي 45800 هكتار، وشبكتي قنوات طار العلا والعشارنة وتروي 23640 هكتار، وذلك عبر قنوات ري رئيسية بطول 242 كم، وثانوية بطول 109 كم، وفرعية بطول 882 كم، وقنوات مشتركة فرعية وثانوية بطول 1140 كم.

وأكد المحفوض أن هذه المشاريع قديمة وتعتمد على طرق الري التقليدية، ورغم التخزين التصميمي الكبير لسد الرستن البالغ 248 مليون متر مكعب، وسد محردة 68 مليون متر مكعب، إلا أن هناك تراجعا كبيرا في تدفق الينابيع – حسب محفوض – إضافة إلى تدني مخزونات السدود بسبب قلة الأمطار في السنوات الأخيرة.

 

انخفاض

إن التغييرات المناخية وتكرار دورات الجفاف وارتفاع درجات الحرارة وانخفاض معدلات الأمطار وعدم انتظامها، أدى إلى انخفاض منسوب المياه الجوفية خصوصا في البادية، إذ يؤكد مدير فرع البادية الدكتور بيان العبد الله وجود مشكلة كبيرة في توفر المياه بالقدر الكافي في البادية، وهذا ما أثر سلباً على المراعي والثروة الحيوانية، فوجود المراعي يوفر علف للحيوانات لفترات طويلة من العام، وهذا يحتاج لكميات كبيرة من المياه، ما يستوجب العمل على تأمينها بالحد الأدنى على الأقل من خلال المحميات التشاركية بين الدولة والمربين، والتوجه إليها كسياسة عامة لضمان وجود المربين في المنطقة، خاصة بعد الدمار الكبير الذي لحق بمراعي البادية نتيجة الحرب والعمليات الإرهابية والتي كان هدفها تهجير السكان المحليين وحرمان قطعانهم من القيمة المضافة التي كانت تزود بها المراعي وتغني المربين لفترات طويلة عن الأعلاف.

 

نقص شديد

وفي ذات السياق، يقول خبير تدهور الأراضي في “أكساد” الدكتور محمد العبد: إذا ما ابتعدنا قليلا عن العاصمة والمدن الكبيرة فإننا نرى أن تأمين مياه الشرب أصبح مصدر قلق يهدد حياه الناس وخصوصا في الأرياف والبادية، حيث باتت تعاني نقصا شديدا في المياه الجوفية نتيجة للحفر العشوائي للآبار والاستخدامات الزراعية البدائية، إضافة إلى الدور الذي لعبته الحرب بنقص المياه وتلوثها مع غياب الرقابة القانونية، وتضرر قنوات الري وتدمير وتخريب شبكات ومحطات المياه، كما أن تدمير المصانع أدى إلى تسرب نفاياتها السائلة في المياه الجوفية مما تسبب بتلوثها.

وأضاف العبد أن سورية تعتبر من دول المنطقة المهددة بأمنها المائي لأنها باتت تعاني نقصا شديدا بالمياه، وعجزا كبيرا في مصادر الموارد العذبة ولاسيما أن المياه العذبة سهلة الاستخراج تشكل 1%، وحصة العالم العربي 1% منها فقط مما يهدد بالعجز عن تلبية جميع الاحتياجات التي تتعلق بالنظام البيئي والغذائي وبات لزما على الدولة دق ناقوس الخطر.

 

مقترحات

وساق العبد بعض المقترحات والحلول الممكنة للحد من ظاهرة نقص الموارد المائية كإقامة السدود وخزانات المياه سيما في مناطق الاستقرار الأولى كالمنطقة الساحلية وسهل الغاب بهدف تخزين مياهها والاستفادة منها لري المحاصيل وسقاية الحيوانات ومنع ضياع المياه في البحر كما حدث في فيضانات أيار عام 2018 في المنطقة الساحلية حيث أدت لضياع المياه وآلاف الأطنان من التربة في البحر، مشيراً إلى ضرورة استخدام مياه الصرف الصحي بعد معالجتها وتنقيتها لري المحاصيل والنباتات العلفية، واستعمال أساليب الزراعة الحديثة بترشيد استهلاك المياه ودعم المزارعين ومساعدتهم لتطبيق هذه التقنية، كما يجب التقليل من استخدام المياه في الصناعة وترشيد استخدام المياه المنزلية وسن القوانين الصارمة لمنع تلويث المياه، ونوه العبد إلى أن موضوع تحلية مياه البحر غير ممكنة بالظروف الراهنة نظرا لتكاليفها الباهظة، كما أن جر مياه نهر الفرات غير وارد حالياً، والأفضل استثمار ينابيعنا ومواردنا المائية الموجودة بالشكل الأمثل.

 

حاجة ماسة

وفيما يخص البادية فقد أشار الدكتور بيان العبد الله إلى الحاجة الماسة للعمل على تأمين المياه لثروتنا الحيوانية المتراجعة مؤخرا سيما أن اعتماد البادية يقتصر اليوم على الآبار بعد الدمار الذي لحق بالسدود والمفيضات، وبالتالي لابد من تأهيل تلك الآبار حيث يوجد لدى فرع البادية في حماة 38بئرا ارتوازيا، تم تأهيل 8 آبار منها في مناطق متفرقة، لتأمين المياه للقطعان في المناطق المأهولة، ويتم العمل حاليا على تأهيل عدة آبار إضافية وتحويل قسم كبير منها إلى الطاقة البديلة، ومنها المركز الشرقي في وادي العذيب، وأم صهريج، ورسم عبد الجبار.

 

آخر القول

يؤكد العارفون أن المياه المتوافرة على سطح الأرض تكفي وللأبد البشرية جمعاء، لاسيما أن كمية الأمطار التي تهطل على الأرض سنوياً هي ثابتة، ولكن توزيعها يختلف من إقليم لآخر، غير أن ما يعانيه العالم من تنقاص هذه الثروة التي لا بديل عنها على الإطلاق هو من صنع البشر بقصد أو بغير بقصد إما من خلال الإسراف والتبذير غير المبرر، أو باحتكارها عبر إقامة السدود بطريقة تحرم من له حق فيها، وإذا ما بقي الوضع على ما هو عليه فسنشهد أسوأ سيناريوهات الجفاف.