مجلة البعث الأسبوعية

السعودية تنتهج سياسة الترحيل الجماعي لليمنيين بعد أن مزقت بلادهم بالحرب.. خطوة لن تمر دون نتائج عكسية!!

البعث الأسبوعية” ــ ترجمة: سمر سامي السمارة

كان المحاضر والأستاذ اليمني محمد علي (اسم مستعار) في حالة ذهول عندما قيل له فجأة إنه سيُطرد ولن يُسمح له بدخول الجامعة السعودية التي درس فيها. قبل أسبوع، قال رئيس جامعة منطقة عسير، جنوب السعودية، لعلي عبر الهاتف إن عقده أُلغي، وأن عليه مغادرة المملكة. “عدت إلى المنزل وتكورت في سريري مدة ست ساعات”، كما قال محمد.. لم يكن الأكاديمي اليمني وحده، بل “جميع زملائي في الجامعة تلقوا إخطارات من الجامعة تفيد بإلغاء عقودهم، أو أنه لن يتم تجديدها دون إبداء الأسباب”، كما أضاف.

تم بالفعل طرد المئات من اليمنيين – بما في ذلك الأكاديميين والمعلمين والأطباء والعاملين بعقود عمل رسمية وإقامة منتظمة – بشكل جماعي واستبدالهم بعمال غير يمنيين. ومن المقرر طرد أكثر من 700 ألف يمني في غضون بضعة أشهر. وهذا التحرك سيجبر اليمنيين داخل المملكة على مواجهة خيار صعب: العودة إلى بيوتهم، إلى بلد على حافة الهاوية، لمواجهة الأوبئة والتفجيرات والحرب، أو البحث عن عمل في بلد آخر. وقد تؤثر هذه الخطوة أيضاً على مئات آلاف آخرين تعتمد أسرهم على التحويلات المالية للبقاء على قيد الحياة وسط حرب التحالف السعودي والحصار المفروض على وطنهم.

وبحسب ما ورد، صدرت توجيهات سرية إلى المؤسسات التي تديرها الحكومة وأصحاب الشركات الخاصة في المناطق الجنوبية من السعودية – بما في ذلك عسير ونجران وجيزان – والمناطق الشرقية، بما في ذلك الدمام والأحساء. وتنص هذه التوجيهات على إنهاء عقود جميع اليمنيين – خاصة الأكاديميين والأطباء والمساعدين الطبيين وغيرهم من المهنيين – تمهيداً لترحيلهم. وقالت مصادر إن الرياض أعطت أرباب العمل أربعة أشهر فقط لتسريح العمال اليمنيين في شرق المملكة وشهرين في الجنوب، استعداداً للترحيل الجماعي، تحت طائلة التعرض للعقوبات إذا لم يتم تنفيذ الأمر. ومن تموز إلى 20 آب، تم فصل ما لا يقل عن 250 أكاديمياً يمنياً في جامعات نجران وجيزان وعسير والباحة ومناطق أخرى.

في محافظة إب، جنوب البلاد، قال اليمنيون الذين لديهم أقارب يعملون في منشآت طبية تديرها الحكومة إن السعودية أنهت بالفعل عقودهم أو رفضت تجديدها. وانتقدت وزارة شؤون المغتربين اليمنية، التي تديرها حكومة أنصار الله في صنعاء، هذه الخطوة قائلة في بيان إن “اليمنيين يقيمون في هذه المناطق منذ عقود ولديهم عقارات وممتلكات تجارية ورساميل مسجلة بأسمائهم”.

 

استياء وغضب الجميع  

أثارت السياسة الجديدة للمملكة الغنية بالنفط استياء اليمنيين من جميع أطراف الحرب التي تقودها السعودية، بما في ذلك حلفاء السعودية. وانتقد العديد من النشطاء اليمنيين، ووسائل الإعلام، وحتى مسؤولون حكوميون سابقون تابعون للحكومة السعودية، تحرك الرياض، وبالتالي حكومة الرئيس عبد المنصور الهادي. وأطلق الاتحاد العالمي للجاليات اليمنية حملة دولية تسخر من هذه السياسة. في غضون ذلك، لم تعلق حكومة هادي المخلوعة، والتي لطالما دافعت عن مزيد من التدخل السعودي من أجل “إنقاذ الاقتصاد” اليمني، على هذه الخطوة. وبدلاً من ذلك، حرض العديد من قادة الحكومة اليمنية المدعومة من السعودية في عدن على عدم الثقة في المغتربين اليمنيين، متهمين إياهم بـ “التجسس لصالح الحوثيين”.

ويقدر عدد المغتربين اليمنيين الذين كانوا يعملون في السعودية قبل السياسة الجديدة بـ 2.5 مليون يمني، معظمهم من ذوي المؤهلات العالية ويعملون في مجالات التعليم والطب وغيرها من المهن في جميع أنحاء المملكة. في جامعة نجران وحدها، يعمل 106 أكاديمياً يمنياً يواجهون الترحيل منذ سنوات كأساتذة وإداريين وفي مجال النشر، مما ساهم بشكل كبير في بناء وازدهار المملكة خلال العقود الماضية. خلال الازدهار الاقتصادي الذي شهدته المملكة في سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي، قدم عمال البناء اليمنيون الكثير من العمالة التي ساعدت في بناء السعودية.

وليست هذه هي المرة الأولى التي تستخدم فيها المملكة رعايا أجانب كوسيلة لتحقيق أهداف سياسية. فقد طرد النظام السعودي حوالي 360 ألف عامل يمني من المملكة بعد أن أشارت الحكومة اليمنية في عهد الرئيس السابق علي صالح إلى أن اليمن سيبدأ في تطوير نفطه من محافظة الجوف؛ وهو مورد طالما سعت إليه السعودية. وخلال حرب الخليج عام 1991، رفض اليمنيون التدخل العسكري بقيادة الولايات المتحدة، ونتيجة لذلك، ألغت السعودية الإعفاء من التأشيرات وطردت ما يقدر بمليون يمني. ومع ذلك، كان أولئك الضحايا من العمال ذوي المهارات المتدنية أو غير المسجلين؛ ولكن هذه المرة يتم استهداف ذوي المهارات العالية.

 

أكثر ما يخشاه اليمنيون المستهدفون

في إب، تعيش عشرات آلاف الأسر أياماً صعبة مع الخوف من المستقبل الذي ينتظر معيلها الوحيد، حيث أن وظائف هؤلاء هي مصدر رزقها الوحيد. قال كثيرون إن إجراءات السعودية تستهدف أطفالهم الذين سيتضورون جوعا، وأعرب بعضهم عن مخاوف جدية من تعرض أبناء عائلاتهم للخطف أو التعذيب أو السجن أو حتى القتل.

“من أين نحصل على المال لشراء الطعام والدواء ودفع الإيجار والمواصلات؟”، يسأل أحد أفراد عائلة ناصر، وهو محاسب مالي في مركز تجاري بجيزان. “أنا لا أثق بالسعوديين.. أنا خائف”، فقد يتم سجنه أو تعذيبه أو تقطيعه، كما رددت سماح (78 عاما) التي تعيش في صنعاء، وهي شقيقة مدرس جامعي آخر، أستاذ إعلام، مضيفة: “سوف يختلقون قصاصات من الأدلة ضد أبنائنا بسبب تواصلهم مع الحوثي”. تنتشر مثل هذه القصص بشكل مخيف بين المهنيين اليمنيين وعائلاتهم.

ولد محمد علي في السعودية، وعمل لسنوات في إحدى جامعات غرب المملكة، حيث حصل على درجة الدكتوراه، ويقيم هناك مع أسرته. وله أحفاد ولدوا في نفس البلد، ولم يعد مرتبطا باليمن إلا من خلال بعض أقاربه الذين يدعمونهم ببعض المساعدات، ومن خلال منزل عائلته القديم. “لقد قدمت العديد من الخدمات إلى السعودية، وأعتبرها بلدي”، قال محمد، و”عمل العديد من زملائي في مراكز الدراسات وقدموا المشورة للنظام السعودي لمساعدتهم في اليمن”.. “قرار ترحيلنا يجعلنا نخشى على حياتنا. لا يمكننا توقع الخطوات التالية لآل سعود”.

وبالنظر إلى اتساع نطاق التحريض الذي أطلقه ناشطون وسياسيون وقادة رأي عام سعوديون داخل المملكة، وعلى وسائل التواصل الاجتماعي، والتي ترصدها الدولة السعودية بعمق، فإن المخاوف، التي عبرت عنها أسر المهنيين اليمنيين، حقيقية، وأخطر السيناريوهات يمكن أن يتحقق. والواقع أن هناك عشرات المغتربين، ومنهم سعوديون، في السجون، أو قتلوا على يد النظام السعودي بتهمة “التواصل مع الحوثيين”، وأحياناً لنشر مقاطع فيديو لطائرات مسيرة وصواريخ تضرب أهدافاً داخل المملكة.

يشار إلى أن الجهود السعودية الجديدة جاءت رغم أن العديد من الأكاديميين اليمنيين وغيرهم من المهنيين ساعدوا السلطات السعودية كباحثين ومحللين ومستشارين وخبراء في الشأن اليمني، ليس فقط لهزيمة القوات الوطنية في جنوب وشرق البلاد، والتي تعارض الاحتلال السعودي، ولكن أيضاً للسيطرة على البلد بأكمله، بما في ذلك تجنيد الجواسيس والقوات. إن تحرك السعودية للتخلي عن اليمنيين الذين ساعدوها يشبه إلى حد كبير تحرك الناتو في أفغانستان، حيث تم التخلي عن العديد من الأفغان الذين ساعدوا الحلف الأطلسي. ويتوقع البعض أن تكون هناك قريباً مشاهد في المنافذ اليمنية السعودية، مثل تلك التي شاهدها العالم في مطار كابول، حتى لو لم تحصل على مثل هذه التغطية الإعلامية.

 

نتائج عكسية؟

ظاهرياً، يأتي التحرك السعودي لترحيل اليمنيين في سياق خطة تهدف إلى “سعودة” الوظائف في المملكة، وهو عذر تتقبله قلة من خارج النظام الملكي. وقال مركز صنعاء للدراسات الإستراتيجية، وهو مؤسسة فكرية مؤيدة للسعودية، في تقرير جديد بعنوان “حملة الرياض غير المعقولة لتطهير العمال اليمنيين”، إن هذه الخطوة تبدو وكأنها “إجراء عقابي يستهدف اليمنيين على وجه التحديد”، ويخلص إلى أنه “بعد كل ذلك، تستهدف السعودية الآن العمال اليمنيين في المملكة الذين تشكل تحويلاتهم المالية واحدة من الأسوار القليلة المتبقية بين اليمن وقاع الهاوية. ولن يؤدي ذلك إلى تقويض ادعاءات الحكومة اليمنية، التي تدعي الرياض أنها تريد العودة إلى السلطة في صنعاء فحسب، بل سيؤذي الشعب اليمني بشكل عام”.

وجود العمال اليمنيين في المملكة تحكمه اتفاقيتان بين حكومتي اليمن والسعودية: اتفاقية الطائف وملحقاتها، عام 1934، والتي تم تجديدها باتفاقية جدة، عام 2000. وقد منحت اليمنيين حق العمل والإقامة المفتوحة وحرية الاستثمار وتملك العقار وعدم مصادرة الأملاك. وحتى عام 1990، كان اليمنيون قادرين على الدخول بدون تأشيرة، وحرية التنقل، والعمل بدون “كفيل” في أي مكان في السعودية.

باستهدافها محافظات جنوب السعودية، عسير ونجران وجيزان على وجه الخصوص، لا تنتهك الرياض اتفاق الطائف فحسب، بل وقد تجدد التوترات القبلية في المنطقة، الأمر الذي قد يوفر في النهاية لليمنيين المطرودين سبباً منطقياً للمطالبة بعودة هذه المناطق إلى السيطرة اليمنية. علاوة على ذلك، يمكن أن تكون هذه الخطوة بمثابة حافز للقبائل الجنوبية المحرومة من حقوقها لتبديل ولائها من الحكومة السعودية إلى لمقاومة اليمنية التي تقاتل القوات السعودية في نجران وجيزان وعسير.

 

أخشى ما يخشاه السعوديون

خلف العناوين، هناك مصير مرعب يخشى السعوديون دفعه لطرد اليمنيين بالجملة من السعودية، وخاصة من الجنوب. تاريخياً، تنتمي قبائل جنوب المملكة، في عسير وجيزان ونجران، إلى القبائل اليمنية، وخاصة قبائل يام وهمدان، التي تحافظ على هويتها اليمنية من خلال العادات والتقاليد وحتى الملابس التقليدية. وتربط هذه القبائل، التي ترفض العدوان السعودي على اليمن، روابط عائلية قوية مع قبائل همدان في صعده باليمن معقل أنصار الله.

من الناحية العقائدية، تنتمي قبائل جنوب المملكة إلى الطائفة الزيدية، التي ينتمي إليها معظم أفراد أنصار الله. وينطبق الشيء نفسه على معظم الوافدين سواء من الطائفة الزيدية أو من المناطق الزيدية داخل اليمن. وقد أدى ذلك إلى تمييز طويل الأمد وانعدام ثقة من جانب الحكومة السعودية ضد قبائل عسير وجيزان ونجران، الذين اتهموا بالتجسس لصالح أنصار الله. وبالفعل، فإن العديد من السعوديين في المنطقة يتعاطفون مع أنصار الله، وقد حاربوا إلى جانبهم.

منذ عام 2015، عندما بدأت الحرب، اكتسبت جماعة أنصار الله شعبية في جنوب وشرق السعودية. فالحكومة السعودية حريصة على أن تتطور العلاقة بين أنصار الله والقبائل إلى تحالف عسكري، وتؤدي إلى انتفاضة مسلحة في جنوب وشرق المملكة، أو مساعدة أنصار الله بالمعلومات والتمويل على الأقل. وقد تتجسد هذه المخاوف في ضوء الحملة التعسفية التي تشنها السلطات السعودية على المغتربين اليمنيين والمواطنين في جنوب وشرق المملكة.

على عكس ما تريده الحكومة السعودية، فإن طرد اليمنيين لن يؤدي فقط إلى تجدد العداء تجاه المملكة، بل سيؤدي إلى تأجيج التعاطف مع أنصار الله وإيران. وهذا رد فعل طبيعي، على أمل أن يعودوا يوماً ما إلى ديارهم التي ولدوا فيها أو نشأوا فيها، أو أنهم قد يجدون في نهاية المطاف عملاً في الجامعات اليمنية التي تديرها حكومة الإنقاذ بقيادة أنصار الله، أو في المناطق الواقعة تحت سيطرتها.. في غضون ذلك، اتخذت أنصار الله بالفعل خطة لاستيعاب هؤلاء.