دراساتصحيفة البعث

لماذا نجحت روسيا في سورية وفشلت الولايات المتحدة في أفغانستان؟

قسم الدراسات والترجمة

كتب أندري كورتونوف، دكتوراه في التاريخ، مدير عام مجلس الشؤون الدولية الروسي، مقالاً يقارن فيه بين النجاح الروسي في سورية والفشل الأمريكي في أفغانستان، ويسلّط الضوء على الفرق بين الرؤية الروسية والرؤية الأمريكية. ويختم برؤية موضوعية هي أقرب ما تكون نصيحة للدولة الروسية لتجنّب الحسابات الخاطئة في أفغانستان.

مقدمة 

بدأ التدخل الأمريكي في أفغانستان في تشرين الأول 2001، واستمر حوالي عقدين من الزمن. في المقابل، انطلقت العملية العسكرية الروسية في سورية بطلب من الحكومة الشرعية، في أيلول 2015، وهي مستمرة منذ ست سنوات.

يرى الكاتب أنه من الصعب مقارنة حملات موسكو وواشنطن لأنهما مختلفتان تماماً في الحجم، وفي أهدافهما، وعلى وجه الخصوص، في تفاصيل حربهما. تضمنت العملية الأمريكية في أفغانستان أعداداً كبيرة من مشاة البحرية الأمريكية، بالإضافة إلى وحدات عسكرية بأحجام مختلفة من عشرات من حلفاء وشركاء الولايات المتحدة، بينما شارك في الغالب الوجود الروسي في سورية قواتها الجوية (VKS) ووحدة صغيرة نسبياً من وحدات الشرطة العسكرية.

بلغ إجمالي الخسائر التي لا يمكن تعويضها للتحالف الدولي في أفغانستان أكثر من 3000 شخص، يمثل الأمريكيون نحو 80٪ منهم، في غضون ذلك، لا تكاد تذكر خسائر روسيا في سورية.

المال هباء..

تشير التقديرات إلى أن حملة أفغانستان التي شنّتها الولايات المتحدة لمدة 20 عاماً كلفت مبلغاً فلكياً، ما بين 1 و2 تريليون دولار أمريكي. في المقابل، تشير تقديرات مختلفة إلى أن تكلفة العملية الروسية في سورية لمدة ست سنوات تتراوح ما بين 10 إلى 15 مليار دولار أمريكي، وهي أقل بكثير من النفقات الأمريكية، وكذلك أقل من تلك الخاصة بالعديد من الشركاء الصغار في التحالف. وعلى سبيل المثال، أنفقت ألمانيا وحدها نحو 50 مليار دولار في أفغانستان على مدى عقدين.

لم تساعد هذه النفقات الهائلة الولايات المتحدة، على الرغم من القضاء على نقاط القوة “للقاعدة” في أفغانستان، في تحقيق الأهداف التي حدّدتها قبل عشرين عاماً، وانسحاب التحالف الدولي من أفغانستان تحوّل إلى إخلاء متسرع وغير مخطّط. في الوقت نفسه، حتى أشد خصوم موسكو يعترفون بأن روسيا انتصرت في سورية، أي في الوقت الحالي، على الأقل، هي بالتأكيد فائزة.

لم يكن لروسيا أي مزايا عسكرية أو تقنية أو جغرافية أساسية مقارنة بالولايات المتحدة، بل على العكس من ذلك، كانت للولايات المتحدة ميزة كبيرة على روسيا في إمكانية الوصول إلى النقل والخدمات اللوجستية ذات الصلة. لم يكن لدى موسكو سوى قاعدتين كاملتين في سورية، وهما القاعدة البحرية في طرطوس والقاعدة الجوية في حميميم. على الرغم من ذلك، لم يستخدم الأمريكيون البنية التحتية العسكرية لأفغانستان فقط -بما في ذلك البنية التحتية التي بناها الاتحاد السوفييتي خلال وجوده لمدة عشر سنوات في البلاد- إنما أسّست أيضاً قواعد في آسيا الوسطى، بالإضافة إلى العديد من ممرات النقل عبر باكستان، وجنوب القوقاز، ودول آسيا الوسطى وروسيا.

لماذا خسرت واشنطن ونجحت موسكو؟ 

أولاً: على الرغم من إعلان كلّ من الولايات المتحدة وروسيا عن هدف مكافحة الإرهاب الدولي، إلا أن العمليتين كان لهما في الواقع أهداف مختلفة تماماً. في عام 2015، تدخلت روسيا بطلب من الدولة السورية، وكان دخولها هو لحماية الدولة السورية.

في عام 2001، كانت الولايات المتحدة تعتزم تغيير الوضع بشكل جذريّ في أفغانستان من خلال إقامة نظام سياسي جديد وتنفيذ خطة لبناء دولة على الأنموذج الغربي. لكن من الواضح أن الهدف الأخير أثبت أنه أصعب بكثير من الأول، خاصة وأن البلاد كانت تفتقر للمقدمات الموضوعية لبناء دولة ناجحة.

ثانياً: أثبتت صيغة أستانا الثلاثية -التي تعاونت روسيا من خلالها مع إيران وتركيا- فعاليتها واستقرارها، ولم يتمّ تدميرها حتى بأزمات حادة مثل التصعيد في إدلب أوائل عام 2020.

في المقابل، انضم نحو خمسين شريكاً للولايات المتحدة في أفغانستان، في الغالب أعضاء حاليون ومحتملون في الناتو، بدءاً من المملكة المتحدة وتركيا إلى جورجيا وأوكرانيا. لم يكن لدى معظم هذه الدول أي مصالح حيوية لتلاحقها في أفغانستان، وقد نشأت مشاركتها إلى حدّ كبير من رغبتها في إظهار الولاء للولايات المتحدة ودعم مشروع أمريكا.

ثالثاً: عارضت روسيا الجماعات الإرهابية الدولية في سورية التي نظرت في نهاية المطاف إلى أراضي الدولة على أنها مجرد نقطة انطلاق محتملة لعملياتها: اليوم، يقاتلون في سورية، وغداً يمكنهم الانتقال إلى العراق المجاور، أو ليبيا، أو دول الساحل، أو أي مكان آخر في العالم يكون فيه الوضع أكثر ملاءمة لهم. بينما كانت “طالبان” حركة أفغانية بحتة، ومقاتلوها ليس لديهم مكان آخر يذهبون إليه. لقد قاتلوا من أجل بلدهم وما زالوا يفعلون ذلك. حتى عندما دفع التحالف الدولي، في أوائل العقد الأول من القرن الحالي، مقاتلي طالبان إلى داخل باكستان، فقد حاولوا العودة إلى ديارهم، عاجلاً أم آجلاً، وبأي ثمن، أي أن دوافع “العولمة” الإسلامية تختلف عن “القومية” الإسلامية إلى حدّ ما. من الناحية المجازية، الأولى لها أرجل، والأخيرة لها جذور.

رابعاً: على ما يبدو، كانت العملية الروسية في سورية أفضل بكثير من المهمّة الأمريكية في أفغانستان، حيث يستحق المستعربون والدبلوماسيون والعسكريون والمخابرات الروسية الثناء على فهمهم للوضع في سورية والدول المجاورة.

في المقابل، بدت العملية الأمريكية في أفغانستان وكأنها ارتجال غير ناجح بالكامل، تشكلت الرؤية الأمريكية لهذا البلد خلال المواجهة مع الاتحاد السوفييتي في الثمانينيات، وثبت أنها بعيدة كل البعد عن الواقع.

لقد نجح الكرملين في جعل وجوده المحدود في سورية مستقراً وبأسعار معقولة من الناحية المالية ومقبولاً بشكل عام للجمهور الروسي، بينما فشل البيت الأبيض في فعل الشيء نفسه في أفغانستان.

مناقشات مناسبة وغير مناسبة

في حين لا يزال من الممكن مناقشة النتيجة طويلة المدى للعملية الروسية في سورية، فإن نتيجة الحملة الأفغانية لا شك فيها، فقد عانت الولايات المتحدة وحلفاؤها من هزيمة واضحة ومؤلمة للغاية. واليوم، فإن الأمر يتعلق بالتقليل من قدر الإذلال الناجم عن هذه الهزيمة، ومنع الجمهور الأمريكي من تطوير “متلازمة أفغانستان” كما كانت الحال مع “متلازمة فيتنام” قبل نصف قرن. إذا نجح الجمهوريون في تحويل موضوع “الديمقراطيون يسرقون انتصارنا في أفغانستان” إلى بند على الأجندة الداخلية لأمريكا، فقد تؤثر المناقشات حول هذا الأمر على نتائج الانتخابات الرئاسية لعام 2024.

لقد عزّزت العملية الروسية في سورية بشكل كبير مكانة موسكو في العالم العربي وزادت من مكانة روسيا في جميع أنحاء الشرق الأوسط، حيث كانت الموثوقية العالية والسياسات المتسقة والتي يمكن التنبؤ بها ذات قيمة دائماً، بينما أصبحت موثوقية واشنطن كشريك استراتيجي وضامن للأمن موضع شك مرة أخرى، وحتى قدرة الناتو على إجراء عمليات ناجحة بعيداً عن منطقة عملياته التقليدية باتت موضع شك أكبر. بمعنى أنه من المؤكد أن الهزيمة في أفغانستان سيكون لها تأثير ضار إلى حدّ ما على معنويات الجيش الأمريكي.

وتجدر الإشارة إلى أن أفغانستان هي مجرد صورة توضيحية لتقلّص الوجود العسكري الأمريكي في جميع أنحاء العالم، ما يعني أنه سيتعيّن على البنتاغون من الآن أن يستعد بنشاط أكبر لإجراء عمليات مستقلة، دون الاعتماد على البنية التحتية العسكرية الحالية لحلفائه وشركائه.

المشهد بعد المعركة

ما هي الدروس التي يمكن أن نتعلمها للمستقبل من هذه المقارنة المختصرة في أوائل القرن الحادي والعشرين؟..

لا يمكن ضمان النصر بتفوق عسكري ساحق على الخصم أو موارد مالية لا محدودة أو دعم دولي واسع أو حتى استعداد للاحتلال لعقود، وإن محاولات فرض نظام اجتماعي واقتصادي وسياسي محدّد على أمة، لأي سبب كان، ستنتهي حتماً بالفشل.

روسيا وأفغانستان

على عكس سورية، حيث تلعب موسكو دوراً مهماً إلى حدّ كبير كضامن لاستقرار سورية وسلامة أراضيها، فإن روسيا ليست لاعباً رئيسياً في أفغانستان حتى الآن. وموسكو ليست لديها قدرات بكين الاقتصادية ولا أدوات إسلام أباد السياسية. وعلى عكس إيران، فهي لا تشترك في حدود طويلة مع أفغانستان. ومع ذلك، لا تزال هناك “متلازمة أفغانستان” العالقة، والرأي العام الروسي يعارض بشدة أي شكل من أشكال التدخل العسكري لروسيا في أفغانستان.

في أواخر التسعينيات، تعاونت موسكو بنشاط مع الجماعات الأوزبكية والطاجيكية المتحدة فيما يُسمّى بالتحالف الشمالي في شمال أفغانستان. بعد الاحتلال الدولي لأفغانستان، تمّ حل التحالف الشمالي لرؤية بعض قادته ينضمون إلى فريق الرئيس آنذاك حامد كرزاي. على الرغم من وجود حديث اليوم عن إحياء تحالف الشمال، إلا أن هذا لم يكن له أي تأثير على توازن القوى في ساحة المعركة ولم يزوّد موسكو بأي قدرات إضافية.

المهام التي تضعها موسكو لنفسها اليوم في أفغانستان متواضعة إلى حدّ ما، أكثر من تلك المحدّدة للجيش الروسي في سورية في عام 2015:

أولاً: من المهمّ منع عدم الاستقرار العسكري والسياسي في أفغانستان من الامتداد عبر حدود حلفاء روسيا في آسيا الوسطى ومنع تدفق اللاجئين والمهاجرين قسراً. أكثر من 2.5 مليون لاجئ أفغاني، أو ربما ضعف هذا الرقم ، منتشرون بالفعل في جميع أنحاء العالم.

ثانياً: تحتاج موسكو إلى منع الجماعات الإرهابية الدولية، مثل “القاعدة أو داعش”، من تحويل أفغانستان إلى نقطة انطلاق لعملياتها في آسيا الوسطى أو في روسيا. وفي هذا الصدد، من المحتمل أن تشكّل أفغانستان تهديداً أكبر، حيث تختلف تقديرات وجود الجماعات الإرهابية الدولية في أفغانستان بشكل كبير. تزعم بعض المصادر أن هناك ما لا يقلّ عن 3000 مقاتل من “داعش” في أفغانستان مع ما لا يقلّ عن 9 قواعد عسكرية.

هناك أيضاً مزاعم بأن “داعش وطالبان” يخوضان محادثات سرية، الأمر الذي يفترض مسبقاً موافقة طالبان على وجود “داعش” في أفغانستان بشرط الامتناع عن التدخل في الشؤون الداخلية للبلاد. وهنا من الصعب تحديد مدى صحة هذه الادعاءات، إذ قد تكون مجرد محاولات لتشويه سمعة طالبان في أعين اللاعبين الإقليميين.

ثالثاً: من مصلحة موسكو أن تقطع بقدر الإمكان تهريب المخدرات من أفغانستان إلى روسيا والدول المجاورة. في السنوات الأولى تحت الاحتلال الدولي، توسّعت مزارع الخشخاش في أفغانستان من 2000 هكتار إلى 30 ألف هكتار. وهناك أسباب للشك في أن أعضاء التحالف الدولي يتغاضون عن الازدهار غير المسبوق لتهريب المخدرات الأفغانية وأنهم متورطون -بشكل مباشر أو غير مباشر- في هذا العمل المربح. من جانبها، بدأت حركة طالبان بنشاط في مكافحة المخدرات في أواخر التسعينيات، وسيظهر المستقبل ما إذا كان سيكون هناك أي نجاح في مواجهة إنتاج وتصدير المخدرات الأفغانية في أعقاب الانسحاب الأمريكي.

سيعتمد الكثير على تصوّر المشهد السياسي المتغيّر في أفغانستان في عيون الولايات المتحدة وأوروبا، وإذا كان لروسيا أن تنافس في أفغانستان مع الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة، فإن قدرات روسيا، المتواضعة كما تبدو الأمور، ستثبت أنها أكثر محدودية. وإذا قرّر الغرب توجيه المسار نحو العزلة الدولية لأفغانستان، فإن أي حكومة في كابول سيكون لديها حوافز إضافية لتوسيع التعاون مع روسيا لتقليل اعتمادها الحتميّ على الصين بطريقة أو بأخرى.

بالتأكيد، سيتعيّن على موسكو أن تتجنّب -بحذر- العديد من المزالق الخفية. على سبيل المثال، كيف يمكن تجنّب التعقيدات المحتملة مع الهند، التي لديها وجهات نظرها الخاصة ومقارباتها تجاه أفغانستان؟.. ما العمل بالنسبة لتركيا التي تطالب بدور مستقل في أفغانستان؟.. ماذا يجب أن يكون الردّ على رغبة واشنطن في الحفاظ على الوجود العسكري المتبقي في المنطقة باستخدام البنية التحتية ذات الصلة في آسيا الوسطى؟.

مع ذلك، وبغضّ النظر عن مدى أهمية هذه الأسئلة وغيرها، يجب ألا يصرف انتباه موسكو عن التعاون الاستراتيجي مع الفاعلين الإقليميين الرئيسيين في أفغانستان. كما أن النتائج الأولية التي حققتها روسيا في سورية تمنحنا أسباباً للأمل في أن ينجح الكرملين في تجنّب الحسابات الخاطئة الواضحة في أفغانستان.