دراساتصحيفة البعث

أمريكا اتخذت من الحرب بعد في أفغانستان منحى جديداً..

محمد شريف الجيوسي

باتت الصورة الآن أكثر وضوحا فيما حدث ويحدث وسيحدث في أفغانستان.. الأماني كبيرة في العالم وإن كانت متباينة الخلفيات، في أن تكون أمريكا وحلفها قد خسرا الحرب هناك، لكن الحقيقة – ربما المُرّة – أن أمريكا لم تخسر الحرب بعد، لكن الحرب وأمريكا دخلتا مرحلة جديدة؛ ولنترك جانباً قصص التحريض والتهريج والاستهلاك الداخلي في أمريكا، بغرض تحقيق منافع “صغيرة” لأطراف “الدولة العميقة” هناك، أو بغرض التعمية عن الأهداف الحقيقية “للهزيمة” الأمريكية، لتمرير سيناريوهات معدة، بتوافق أمريكي واسع، ولكن بأقل قدر من الوضوح وأكبر حجم من التضليل، وصولاً لغايات أمريكية رديئة “مرجوة” لدى أصحابها الأمريكان، طالما مارستها الإدارات الأمريكية المتعاقبة.

لم تكسب أمريكاـ في حروبها وفتنها وانقلاباتها وتدخلاتها وضغوطها وحصاراتها وعقوباتها، معركة واحدة بالمعنى الدقيق للكلمة، بل خرجت في حرب واحدة على الأقل مهزومة شر هزيمة، لكنها حتى في حرب فيتنام والحرب العالمية خلفت من الدمار والكوارث والضحايا والويلات ما يبدو معه أنها ربحت الحرب، فتنفذ منها مستغلة ضعف الأخر لتبني عليه مجدها وسطوتها، تساعدها في ذلك الجغرافية البعيدة مكانياًعن مقار الويلات التبي ارتكبتها، وما لديها من قواسم مشتركة مع أوروبا الغربية التي ترى في الولايات المتحدة، كواقع، الأقرب إليها عما عداها، فتتعقد معها تحالفاً تبعياً، ضد آخرين، اقتصاديا وعسكريا وسياسيا واستخباريا، لتشكلا معا واقع ضرورة لا خيار فيه، متجانس نسبياً.

ورغم ما يبدو عليه راهناً حال الاستهلاك في الداخل الأمريكي من تنافر، إلا أنه في الحقيقة متكامل شكلاً ومضموناً، إلا من جزئيات صغيرة، تخدم بالنتيجة الخط الأمريكي العام. ومن تابع الدقائق الأخيرة لمؤتمر بايدن، 31 آب، يدرك أن ما حصل في أفغانستان قرار مشترك لـ ترامب ـ بايدن “حكيم وبليغ وضروري” من وجهة أمريكية.

“كانت” الحرب – كما قال بايدن – تكلف أمريكا 300 مليون دولار يومياً، وروسيا والصين تتمنيان لو أن أمريكا بقيت منغمسة فيها لـ 10 سنوات أخرى، ولا مصلحة إستراتيجية لأمريكا في الإستمرار بالحرب هناك، فقد تمت مقاصصة إبن لادن لشنه هجمات البرجين (على إفتراض أنه هو من شنها فعلاً)، وبالتالي، لم يعد من داع للبقاء هناك، والحروب داخل أفغانستان وحولها ستستمر، وعلى شعوب المنطقة حل مشكلاتها بنفسها.

ولكن: “لمَ لَمْ تنه أمريكا غزوها لأفغانستان فور تصفية بن لادن، إن كان هدف الحرب ما رشح به بايدن؟”.. هذا ما لم يتفضل بتوضيحه.. هجمات البرجين كانت ضرورية لشن الحرب على أفغانستان، وأكثر ضرورة لخروج أمريكا منها بهذه الطريقة التي تبدو مشينة ظاهرياً..

من المؤكد أن أمريكا لم تحصد بعد ثمار “الربيع العربي” الذي أعدت له جيداً، بدءاً بمشروعي الشرق أوسط الجديد والفوضى الخلاقة، وخلق تكتلات جيوسياسية كبرى بديلة للعالم العربي بفصل شمال أفريقيا عن المشرق العربي، وتنمية ظواهر انفصالية وتمزيقية، والذي كان من أدواته التحالف مع الإسلام السياسي العربي، للحلول محل أنظمة قائمة من المغرب حتى العراق، مقابل استبدال الصراع من عربي إسرائيلي إلى صراع عربي مذهبي وعربي “فارسي”، وإزاحة كل دولة يمكن يوماً أن تسهم ولو بقدر معلوم ضد إسرائيل.

ورغم كل الدمار الذي حل بالأمة، لم يحقق “الربيع العربي ـ الأمريكي” أهدافه الإستراتيجية، ولا آفاق لاستعادة زمام المبادرة وإنجاح الربيع الزائف، الذي تحول إلى خريف بائس، بل ووجدت فيه روسيا والصين وإيران وكوريا الديمقراطية وفنزويلا وغيرها، ربما، مواطىء أقدام لها في جغرافية الربيع هذا..

وفي فترة انشغال واشنطن وحلفها في ربيعها البائس، أصبحت الصين الدولة الأعظم اقتصاديا، وروسيا الدولة الأعظم تصنيعا وتجارة للسلاح والأقوى حتى على صعيد إنتاج أول مضاد لوباء كورونا، وإيران رغم عقود الحصار، أصبحت نووية، رغم أنها غير راغبة بامتلاك سلاحه، لثقتها بقدرتها كما يبدو على مفاجأة محاصريها، وردعهم دون امتلاكه، ما يضطرهم إلى عدم شن حرب شاملة عليها، ومنع اسرائيل من توريطهم في شن حرب عليها.

من هنا، كان لا بد من البحث عن بدائل تبقي جذوة الصراعات مشتعلة في العالم وتنقل الحرب إلى ديار من أحبط موضوعياً الربيع العربي الأمريكي الإخواني الوهابي العثماني الصهيوني.. فكانت أفغانستان هي الخيار البديل الذي إن لم يحقق أهداف التحالف الأمريكي، فإنه سيشغل روسيا والصين وإيران بعض وقت، بما سيشعل من حرائق وأزمات وصراعات وفتن هناك، ويسبب لهذه الدول ما “يكفي” من آمال أمريكية خبيثة، بقصقصة وجودها في مناطق “الربيع العربي”، وبالتالي تفرغ أمريكا لوهم تحقيق ما هدف إليه مشروع ذاك الربيع المشين الساقط.. والذي سيسقط مجدداً ونهائيا على نحوٍ أكثر قسوة على الأمريكان وحلفها الواسع الغبي، بما في ذلك الأخونة والأردوغانية وحلقات الانفصال الخيانية.

كلمة أخيرة.. لاحظوا كيف تحول الحلف الأمريكي إلى إعلام في خدمة الطالبانية، وتقديم التطمينات للعالم حولها، وبدء تدفق المساعدات وترك أسلحة لها بما يزيد عن حاجتها، وتوجه مكتب الإرشاد العالمي عبر العثامنة الجدد لمساعدة طالبان، التي في عهدها ستُغرس في أفغانستان الورود والرياحين بدل الحشيش، وتقام دور العلم والاختراعات بدل سفك الدماء، وتعم المدنية بدل التخلف والجهل والخرافة.

m.sh.jayousi@hotmail.co.uk