دراساتصحيفة البعث

ما بعد الانسحاب من أفغانستان

محمد نادر العمري

بالتأكيد، تحتم نهاية كل احتلال خروج المحتلين بغض النظر عن الطريقة سواء كان بالمقاومة أو عبر التسويات أو عبر تغير القوى المحتلة أو عبر ضمان وجود حلفاء وأتباع في الدولة المحتلة, ولكنها بالنهاية تحتم الانسحاب والخروج.

ولم تكن هي المرة الأولى التي تخرج القوات الأمريكية من مناطق قد احتلتها أو غزتها أو دخلتها ولن تكون الأخيرة، غير إن الانسحاب من أفغانستان أعاد للذاكرة الانسحاب من فيتنام بعد مستنقع الخسارة في الستينات والسبعينات من القرن الماضي, ومن لبنان بعد الضربة الموجعة التي أنزلتها المقاومة بقوات المارينز في تشرين الثاني عام 1983, أو بالانسحاب المر لقوات الاحتلال الأمريكية من العراق بين أعوام 2008 – 2010  “قبل العودة إليه مجدداً بذريعة محاربة الإرهاب”, غير أن هذا الانسحاب الأخير سيضع الولايات المتحدة في وضع لا تحسد عليه على المستوى الدولي بالتحديد, وبخاصة في ظل المعطيات والظروف والمتغيرات والمواقف التالية:

أولاً: من ناحية الكيان الصهيوني, يشكل الانسحاب الأمريكي هاجساً مرعباً بالنسبة لمن هم في مراكز القيادة الأمنية والعسكرية والسياسية للكيان الغاصب, لأنه قد يكون مجرد مرحلة أولية لانسحابات أخرى ستكون محطتها القادمة في سورية والعراق، وربما مع تخفيف القوات الأمريكية من تواجد عناصرها في القواعد الخاصة بها في الخليج, وهو ما قد يجعل الكيان وحيداً في المنطقة أو بموقع ضعيف، وخاصة وأنه منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية شكل تعزيز التواجد الأمريكي في المنطقة نقطة قوة للكيان الصهيوني، وتحولاً أكبر في ميزان القوى لصالحه بعد انهيار الاتحاد السوفييتي واندلاع حرب الخليج الثانية 1990 – 1991. هذا من جانب, ومن من جانب  آخر يخشى الكيان وفق تقارير ومعلومات وتصريحات مسؤوليه أن يشكل هذا الانسحاب جرعة محفزة من المعنويات للمقاومة لاستنزاف قوات الاحتلال ودفعها للانسحاب مضطرة في نهاية الأمر. وهو ما عبر عنه صراحة رئيس الموساد السابق  يوسي كوهين في مقال له في صحيفة “يديعوت أحرونوت” بقوله: “الانسحاب الأميركي من أفغانستان ينبغي أن يثير لدينا أفكارا ومخاوف حول الخطر الملموس الكامن في انسحاب أمريكي آخر محتمل، وهذه المرة من العراق”. ويخلص كوهين إلى أنَّه يتعين على “إسرائيل” وقادتها بلورة إستراتيجية لما بعد الانسحاب الأمريكي المحتمل من الشرق الأوسط، وذلك عبر طرح مقاربة تضمن شرق أوسط مستقرا, وهذا التعبير هو جديد في أدبيات الكيان الصهيوني الإرهابي, فلطالما كانت “إسرائيل” ومن خلفها الصهيونية والولايات المتحدة يتحدثون عن شرق أوسط فوضوي باستثناء الكيان.

ثانياً: تزايد المطالب داخل الاتحاد الأوروبي بالتخلي عن التبعية السياسية والعسكرية للولايات المتحدة الأمريكية, والتوجه نحو بناء قدرات دفاعية وعسكرية مستقلة تضمن اتخاذ قرارات مستقلة, فالوضع الذي بات عليه الاتحاد اليوم يشبه دور الحصان الخشبي, بمعنى أن أميركا اعتمدت على الدول الأوربية خلال عقدين سابقين لغزو دول مثل أفغانستان والعراق وليبيا, ولم تراع مصالح هذه الدول في انسحابها من أفغانستان وقبلها من الاتفاق النووي مع إيران.

ثالثاً: اعتبر وزير دفاع بريطانيا بن والاس التي تعتبر بلاده من أكثر الدول تتبعاً للسياسات الأمريكية ومحركاً لتحفيز سياستها في أوروبا أنه “لم يعد ممكنا اعتبار الولايات المتحدة قوة عظمى، لأن القوة العظمى غير المستعدة للالتزام بشيء ما قد لا تكون على الأرجح قوة عظمى”، في إشارة للسلوك الأمريكي في أفغانستان، وذلك في تصريح له لصحيفة “الغارديان” البريطانية.

رابعاً: المفارقة الأكبر، والتي يمكن اعتبارها من مؤشرات تغير موازين القوى على صعيد النظام الدولي, هي الانسحاب الأمريكي من أفغانستان وتوسع الصين في فنزويلا وأميركا اللاتينية, وهي مفارقة تشكل صدمة لمتتبعي مسار الإستراتيجية الأمريكية خلال العقد الأخير والهادفة لاحتواء الصين ومنع تمدد نفوذها. وقد بات نفوذ الأخيرة اليوم في توسع ووصل للحديقة الخلفية للولايات المتحدة الأمريكية بعد توقيع المئات من الاتفاقيات مع فنزويلا حول الطاقة والمناجم والبنى التحتية, كما من المتوقع أن تزداد في كوبا, وحتى في أفغانستان ذاتها التي لم تنجح أميركا من تحويلها لرعب جغرافي مستنزف ضد الصين.