ثقافةصحيفة البعث

ذكريات زرقاء في “حروف” خلدون الأحمد

حلب- غالية خوجة

الأزرق وتدرّجاته هو الشخصية الرئيسية في أعمال التشكيلي خلدون الأحمد في معرضه “حروف” الذي أقيم مؤخراً في صالة الخانجي للفنون الجميلة بحلب، وحضره حشد من فناني حلب ومثقفيها والمهتمين بالمعارض الفنية التشكيلية.

لكن، لماذا الزرقة هي البطل في أعماله الأربعين التي تراوحت بين التشكيل والتجريد والفن التطبيقي؟.

يجيبنا الأحمد: الأزرق نوع من الرومانسية الخاصة الداخلية والطبيعية، وهو لون جميل، يأخذنا إلى الحلم والذكريات.

وبينما نستقرئ اللوحات الأربعين بتناغمية كتلها وفراغاتها وألوانها، نلاحظ آلة خياطة يدوية أثرية قديمة مزيّنة بالأزرق والحروفية المنسجمة مع الأعمال الأخرى، فأسأل الفنان الأحمد: ماذا يعني لك هذا العمل كفن تطبيقي مفاهيمي؟.

يضحك بابتسامة تستعيد مشاهدَ من مسافة زمنية بعيدة قليلاً، ويقول: إنها آلة خياطة أمي، رسمت عليها ذكرياتها وأحلامها وآلامها وحنيني إليها، وهذه الآلة لها علاقة بالتراث الذي اعتدت عليه، وأمي كانت تعمل عليها بتفاصيل فنية جميلة.

كأنّ صوت آلة الخياطة ما زال يتحرك مثل خلفية موسيقية للمعرض، ويجعل المتأمل يحدق في مشهد أمهاتنا وكيف كنّ سيدات بيوت مدبّرات مناضلات، يعملن في كافة المهن ليستمر البيت وأهله بحالة من المحبة والتآلف والسعادة.

نوتة” شعرية قادمة

في أعلى الجدار الذي تتوسطه هذه الآلة، نرى لوحة دائرية تحتضن مربعاً بطريقة فنية، رآها فنانها الأحمد نقطة داخل دائرة، تمنح تكوين الحرف العربي جمالياته ضمن “النوتة”، وله علاقة بالروح الداخلية للعمل. وأضاف: عام 2020 كان معرضي “أبجدية المحار” تجربة فنية فكرية، عملت على الحرف ضمن عزف روحي وإيقاع لوني لأنجز تناغمية خاصة بتشكّلات الحرف.

وحين سألته: لماذا وظفت الحروف كعناصر فنية فقط، أين الشعر؟ وبيت القصيد؟ والحكمة؟ لربما منح المعنى ودلالاته إضافات أخرى لهذه التشكيلية؟.

أجابني: أعدك أن أنفّذ مقترحك هذا في معرضي القادم.

تناغمية الانزياح

أمّا كيف بدت لوحات المعرض وما فنياتها الملفتة؟ فإننا نلاحظ أن تجربة التشكيلي خلدون الأحمد أصبحت في أعماله الأخيرة أكثر تناغمية بين الكتلة والفراغ، متحولاً عن ازدحام الحرف إلى الانزياح الجمالي للدلالات النصية للوحة بألوانها المتمحورة حول موسيقا الأزرق، المتداخلة بإيحاءات الأحمر كفرصة لبزوغ الشمس، الملتفة بأشعة الأبيض والأسود كمتناقضين غير متضادين، مما يسمح للقارئ أن يتوقع بزوغ الفجر من آخر الليل، وبداية حياة جديدة مع حركة الحروف الأساسية التي يركّز عليها الفنان، ومنها حرف الضاد والميم والواو، لتبدو الحركة الخفية للمشهد الجمالي متكورة، وحانية، ومضمومة، تتوزع إلى فضاء يضمّ الكون وعناصره الرباعية في شكل الضاد، بينما يختزل الساكن العميق، والمتحركَ العميق، في النقطة الموحية بتأويلات لا تنتهي، قد تكون صوفية تدور مع نقطة الباء والنون، وقد تكون فلسفية نفسية منها إصرارها على بروزها بشكل رباعي أو دائري، لتشير بإفصاح إلى نقطة اللا وعي اليونغية غير المنفصلة عن الوعي، الملتحمة مع الطبيعة ومكوناتها المضيئة من خلال الحركة التي تتركها تداخلات الأبيض والأحمر بين الأزرق والأسود، والتدرجات اللونية الأخرى، وهذا ما يجعل المتلقي يشعر للوهلة الأولى بتشابُهِ اللوحات المأخوذة بلون البحر والسماء والأرض والحالة النفسية لكل من الفنان والمتلقي، وقد يسمع أحد المتلقين صوتاً يطلع من تدرجات هذا اللون وهو ينشد مع محمود درويش قصيدته “أحمد الزعتر”: “قاومْ، إن التشابه للرمال، وأنت للأزرق”.

أيضاً، يلاحظ المتلقي وكلٌّ تبعاً لثقافته ووجداناتها، ورغم التشكيلات الحروفية، أن هناك عمقاً آخر للحكاية التي تسردها الألوان المائجة حول شواطئ اللوحة، أو في مركزها، ولا تلبث الحروف أن تتحوّل إلى مراكب وأشخاص وأمكنة وذاكرة وأزمنة، إلاّ أنها في نهاية الرحلة تمنح الطمأنينة الفنية والحياتية معاً.