دراساتصحيفة البعث

أبناء المجد

محمد نادر العمري

 

هي المقاومة التي أبقاها شعب، هو الشعب الفلسطيني، سلاحه الحقيقي، بالرغم من كل ما تعرّض له من إرهاب، وسلب لممتلكاته، وإنكار لحقوقه على مر عقود، مقاومة أبدع في خلق أساليبها بما يملكه من أبسط الإمكانات المتواضعة.

هذه المقدمة قد يعتبرها البعض إنشائية، أو مجرد كلمات احتفالية وتعبوية، لكنها في الحقيقة تختزن خلاصة تجربة أكثر من قرن تمكّن خلالها الشعب الفلسطيني من البقاء والدفاع عن حقوقه، بدءاً من فترة الانتداب البريطاني الغاشمة، وما لحقها من احتلال صهيوني للأراضي الفلسطينية.

وإن اعتبرت من قبل البعض احتفالية فلتكن كذلك، ولنمجّد شعباً خذلته الرجعية العربية في فترة الأربعينيات، وقدمت له بعض الأنظمة المتخمة بالبترول والدولارات فتات الفتات، ورفضت بعض الدول، باستثناء سورية، استضافة مقاومته وفصائله، وتآمرت عليه بعض الأنظمة وضغطت عليه لدفعه لاتفاقيات استسلام، واجتمعت معظم أنظمة الكون ممثّلة بالحظيرة الأممية لتشرعن وجود عدوه وقاتله، كل هذا ألا يستحق التمجيد.

نعم هو الشعب الذي جعل المستحيل ممكناً، فلم يسمح لفقر الحال أن يدفعه لبيع قضيته، هو شعب حوّل الحجر إلى سلاح، وواجه عتاد الأسلحة وأخطرها وأكبرها وأشدها تأثيراً بصدور عارية، حافظ على مفاتيح منازله على أمل أن يعود إليها، قلب معادلات الردع والمواجهة مع الكيان بالإرادة والصبر، وبدعم من محور المقاومة، استطاع أبناؤه أن يحوّلوا أدوات الطعام إلى أدوات حفر ليكتبوا بها تاريخ الحرية، وليسطّروا شكلاً آخر من المقاومة.

فالكيان الصهيوني الذي مارس عنجهيته وسطوته وإرهابه مطلع القرن العشرين، بات اليوم يطلب من مراكز بحثية وأجهزة أمنية وعسكرية أن تدرس كيفية تمتع المواطن الفلسطيني بالإرادة والمواجهة، وقد تعزز هذا التوجه بعد انتفاضة الشعب الفلسطيني في الدفاع عن حي الشيخ جراح، وعدم تخليه عن الهوية الأم، رغم السلطة الإدارية للاحتلال، وكيف تمكّن من مواجهة الحصار في غزة، وفائض القوة التي تعرّض لها وعرّضت كل منزل لتقديم ضحية وشهيد دون أن يستسلم، وكيف تمكّن ستة أسرى لهم تاريخ بطولي من الجهد والاستمرار في الحفر لفترة سنوات حتى تمكنوا من الفرار من أكثر سجون الاحتلال متانة وتحصيناً.

يمكن تتبع ذلك في تصريحات المسؤولين الصهاينة التي تعتري خيبة الأمل كلماتهم وتستوطن عقولهم وتسيطر على سلوكهم، وكان أبرزها تلك التي نطقت بها مفوضة مصلحة السجون الإسرائيلية “الشاباص”، كيتي بيري، ذات يوم، بأن فرار الأسرى من سجن جلبوع: “حدث صعب، مزلزل ومؤسس، وله تبعات كثيرة، أصبنا بالذعر من هروب الأسرى”، في حين قال وزير الأمن الداخلي، عومير بار ليف: “هروب الأسرى من سجن جلبوع ليس فشلاً موضعياً، هذا فشل لسنوات ويستصرخ السماء”.

حتى إن أحد الباحثين في مجال التخصص الاجتماعي والنفسي في مركز “بيغن” للدراسات ويدعى يوآف سيغالوفيتش قال في حديثه لموقع “والا” الصهيوني: “إنه على مدى أكثر من عقد، لاسيما منذ حرب 2008- 2009 في غزة,، تم الطلب إلينا من الحكومات المتعاقبة دراسة توجهات المواطنين الفلسطينيين، وزادت الكتب الرسمية في هذا الإطار مع كل إخفاق إسرائيلي، وبعد صفقة القرن كنا نتوقع أن الفلسطينيين سيرفعون الرايات البيضاء، لكن ما شاهدناه من أعمال ومظاهرات لعرب 48 كانت صادمة لنا، فهؤلاء يهددون داخلنا، حتى بات واقع الصدمة كبيراً من قدرات الأسرى من الفرار، ما يضعنا أمام تساؤل خطير: هل أمن إسرائيل بخير؟”.

هذه جزئية من الواقع المقاوم الفلسطيني، فسجون الاحتلال الصهيوني التي تعتبر أحد أهم عناصر القوة التي يعتمد عليها الكيان الغاصب، ودرة تاج المنظومة الأمنية والقمعية بوصفها “الرادع” الأقوى لكل من يفكر بالمقاومة والثورة، بل أريد لها بالمعنى التطبيقي أن تتحول لمقابر جماعية للمقاومين تحت مسميات: المؤبدات، والأحكام العالية، وظروف السجن النفسية والصحية القاهرة، وعمليات التعذيب المتوحشة، باتت اليوم تشكّل هاجساً للصهاينة.

منذ نكسة ١٩٦٧، ووفق الإحصائيات الفلسطينية المتعلقة بالأسرى، اعتقل أكثر من مليون فلسطيني، بينهم ١٧ ألف امرأة، وأكثر من ٥٠ ألف طفل، واستشهد أكثر من ٢٢٦ أسيراً داخل السجون، والمئات توفوا بعد تحريرهم بفترة قصيرة نتيجة سوء الرعاية الصحية والأوبئة الناتجة عن الأسر، ولكن رغم كل ذلك لم يتحقق للصهاينة مبتغاهم في تركيع الفلسطينيين، وبعد عملية الهروب من جلبوع، أضحت المنظومات الأمنية والسياسية والعسكرية تخشى من ردة الفعل المقاوم لأكثر من ٤٨٥٠ أسيراً وأسيرة يتوزعون على ٢٣ سجناً ومعتقلاً ومركز توقيف، وهذا ما يفسر سبب الحملة الشعواء للاحتلال في عمليات المداهمة والبحث عنهم، والمشاهد التي تم عرضها لاعتقال 4 منهم، فكيف سيكون الحال إن شهدنا المزيد من المفاجآت المحبطة للعدو؟.