مجلة البعث الأسبوعية

ليبيا بعد عشرة أعوام من الحرب.. وضع معقد في ظل تكالب القوى الغربية والإقليمية على النفط!!

“البعث الأسبوعية” ــ هيفاء علي

بعد عشرة أعوام على العدوان الغربي على ليبيا، لا تزال البلاد تعاني من أزمة سياسية واقتصادية تغيب آمال حلها عن الأفق، فهي لا تزال غارقة في فوضى سياسية واقتصادية واجتماعية غير مسبوقة، فهناك حوالي 3 آلاف مليشيا مسلحة تفرض قوانينها وتتقاسم الغنائم من عائدات النفط، فيما ساهم تدخل القوى الإقليمية – التي تنحاز إلى جانب أو إلى آخر – في تأجيج الانقسامات وتعقيد الوضع، على الرغم من عقد المؤتمرات الخاصة بليبيا غير مرة، إلا أنها لم تحقق أي شيء على الأرض.

تميزت هذه الأعوام العشرة بإخفاقات دبلوماسية متتالية ترجع في جزء كبير منها إلى القوات الأجنبية التي تتحمل مسؤولية كبيرة، وعلى رأسها الولايات المتحدة والنظام التركي ومشيخة قطر، بينما يتحمل المجتمع الدولي والأمم المتحدة قسطا كبيرا من المسؤولية عن الانقسامات التي ابتليت بها البلاد. ونتيجة لذلك، أصبح الوضع أسوأ بكثير مما كان عليه قبل عشر سنوات؛ فقد أصبحت البلاد أكثر فقرا بثرواتها النفطية، وانخفضت مداخيل ونوعية حياة الطبقة الوسطى بشكل كبير.. أدت الأزمة إلى ظهور طبقة جديدة من الأثرياء الجدد، مرتبطة بشكل أو بآخر بالميليشيات، وقد نمت بشكل ملحوظ على مدى السنوات العشر الماضية؛ وهناك حوالي 3 آلاف شخص، 40 منهم أقوياء وأصحاب نفوذ ومعترف بهم، هم من يديرون البلاد لأن لديهم الأسلحة والمال.

وبعد عشرة أعوام على هذا العدوان السافر، يمكن القول إن ما يحكم المشهد الليبي الراهن هو أنه نتاج توازنات دقيقة دولية وإقليمية تمنع حسم الصراع لصالح أي من الطرفين، وهما الجيش الوطني الليبي ومجلس النواب باعتبار أنهما يقودان التيار غير الراغب في سيطرة فصائل الإسلام السياسي على المقدرات الليبية، والطرف الآخر هو تلك الفصائل وميليشياتها وقوى الفوضى، كذلك، من ميليشيات عسكرية احترفت نظام الأتاوات. وبجوار هذين الطرفين، هناك أغلبية كبيرة من رافضي الإسلام السياسي الإخواني ولكنها أغلبية جزء منها صامت قد يشارك في الانتخابات إذا ضمن سلامتها ونزاهتها، وقطاع آخر من الشعب الليبي يعارضها أيضا، ولكنه مستعد لمهادنة التيار الإخواني تقاربا مع الغرب، أو من باب الخشية منه. وفي الفترة التي أحرز فيها الجيش الليبي تقدمه نحو طرابلس، جاء تدخل النظام التركي الذي نقل المرتزقة والإرهابيين من الجبهة السورية إلى الأراضي الليبية في محاولة لقلب التوازن العسكري لصالح الإخوان.

يضاف إلى التوازن العسكري للأطراف الداخلية والإقليمية في ليبيا توازن دولي آخر تمثله رغبة واشنطن بشكل أساس في عدم انفلات المشهد العسكري، ورغبتها في أن يتسع دورها المباشر وغير المباشر في إدارة الصراع اعتمادا على علاقتها بكل أطرافه الإقليميين والأوروبيين، فيما عدا روسيا التي لن تجازف بتوسيع تواجدها العسكري لعدم توفر المقومات السياسية واللوجستية، ما أنتج نوعا من التوازن العسكري والسياسي في المشهد الليبي، والأهم نوعا من الإدراك المتزايد بعدم إمكانية الحسم العسكري في المرحلة الراهنة.

 

الحكومة الجديدة

تم انتخاب أعضاء حكومة جدد لقيادة ليبيا خلال الفترة الانتقالية التي من المفترض أن تحضّر لإجراء الانتخابات المزمعة في كانون الأول المقبل؛ حيث انتخب عبد الحميد دبيبة، 61 عاما، وهو رجل أعمال ثري من مصراتة ومقرّب سابقا من العقيد القذافي، رئيسا للوزراء، في اقتراع أُجري في مكان سري بجنيف، في إطار منتدى الحوار السياسي الليبي برعاية الأمم المتحدة. كما تم انتخاب الدبلوماسي محمد يونس منفي رئيسا للمجلس الرئاسي، يساعده نائبا رئيس منتخبان أيضا.

الناخبون الـ 74، الذين اختارتهم الأمم المتحدة لقدرتهم على تمثيل التنوع الليبي وأطراف النزاع، خلقوا المفاجأة، من خلال الإطاحة بالثنائي من الشخصيات القيادية: فتحي باشاغا، وزير الداخلية فيما يسمى حكومة الوحدة الوطنية، ومقرها طرابلس، وعقيلة صالح رئيس برلمان طبرق في الشرق.

وبينما يُعرف عبد الحميد دبيبة بأنه قريب من النظام التركي، الذي يدعم طرابلس بقوة لأسباب تجارية أكثر منها أيديولوجية”، عبرت جماعة الإخوان المسلمين عن غضبها لأنه تم استبعادها من العملية الانتقالية.

كما استنكر المفتي العام الشيخ الصادق الغرياني اختيار الأمم المتحدة أعضاء منتدى الحوار الذين – برأيه – لا يمثلون الشعب الليبي، وفق ما أوردته صحيفة “ليبيا أوبزرفر” الأسبوعية، وهو يهدد بأن هذا الأمر هو ثغرة كبيرة تضع ليبيا تحت وصاية المجتمع الدولي؛ وهناك قسم من الليبيين يعتبر محمد يونس منفي خائنا “لوقوفه ضد الهجوم على طرابلس”.

ويأمل الليبيون من الحكومة الجديدة أن تتبع نهجا عمليا في تخصيص مناصب رئيسية لشخصيات من الشرق بحيث يمكن أن تساعد في التغلب على خيبات الأمل. وملامح المشهد الليبي الجديد تعبر عنه وجوه بارزة في تشكيلة حكومة الدبيبة، عبر حضور لافت للنساء في أربع وزارات استراتيجية وحسّاسة، وهي العدل والشؤون الاجتماعية والثقافة والتنمية المعرفية، إضافة لوزارة الخارجية التي تولتها امرأة، هي الدكتورة نجلاء محمد المنقوش، لأول مرة في تاريخ البلاد.

وحضور النساء في الحكومة الجديدة هو مؤشر على تنامي دورها في بلد تسود فيه الثقافة التقليدية، ولا يتجاوز حضور المرأة 12 في المائة في المجالس والمؤسسات السياسية، كما دفعت النساء ثمنا باهظا في زمن الحرب بتعرضهن للاختطاف والاغتيالات.

ومن أهم المكتسبات الدبلوماسية التي حققتها حكومة الدبيبة، ووزيرة الخارجية المنقوش، عودة الدول الأوروبية الكبرى المؤثرة في الشأن الليبي (إيطاليا وفرنسا وألمانيا وبريطانيا، بالإضافة للاتحاد الأوروبي)، والتي فتحت سفاراتها بعد أن كانت أغلقتها قبل ستة أعوام بسبب المخاطر الأمنية. كما يتداخل الزخم الدبلوماسي من وإلى العاصمة طرابلس، مع تسابق الدول والمستثمرين على نيل قطعة من كعكة إعادة إعمار شبه كاملة للبلد الذي دمرته الحرب، وفي المقدمة العواصم الغربية التي تدرك أن كسب حصة الأسد من “الكعكة” الليبية لن يكون سهل المنال، في ظل التنافس الشرس؛ كما شكلت ثروات ليبيا وموقعها الجيو – استراتيجي دافعا لتدخلات القوى الكبرى والإقليمية العسكرية حيث أسالت خطط إعادة إعمار البلد لعاب القوى المختلفة بطريقة مقززة.

 

التحديات الحقيقية أمام لسلام

على الدوام تدور الصعوبات حول عناوين تخفي إشكالية التسوية في ليبيا وهشاشتها حتى الآن، فالأسئلة التي يتعطل حولها حوار الانتخابات تتمحور في جزء كبير منها حول ترشح العسكريين، وعلى وجه الخصوص، ترشح القائد العسكري خليفة حفتر، الأمر الذي يعارضه بشكل واضح عدد من قيادات الإخوان والفصائل التكفيرية التي تصر على ضرورة استبعاد حفتر إلى حد تفصيل ترتيبات تسميه بوضوح كامل، وهذا الخلاف في ذاته يبدو كافيا لتدمير العملية السياسية برمتها. ومن الواضح أنه رغم الاتهامات الكثيرة ضد حفتر ووجود أطراف داخلية وخارجية عديدة لا تفضل وجوده، فإن خصومه الداخليين يخشون احتمالات فوزه في انتخابات يعلمون أنها ستكون مراقبة دوليا، وهم بالأساس لا يثقون بقوة حججهم لإفشال حملته الانتخابية، ولا في قوتهم الانتخابية والسياسية.

فمن هو المشير حفتر: لقد أثبت نفسه باعتباره الرجل الرئيسي في هذا الصراع، وهو رفيق سابق في جيش القذافي، انفصل عن الزعيم الليبي في نهاية الثمانينيات – عندما كان مدعوما من واشنطن – بل وشارك من الخارج في محاولة انقلاب ضده. عاد إلى ليبيا في عام 2011 للمشاركة في التمرد، وسرعان ما غادر البلاد بعد سقوط النظام. عاد إلى هناك مرة أخرى في عام 2014 وتمكن من تأسيس جيشه من خلال توحيد العديد من القبائل والجماعات العسكرية، لمحاربة الحكومة في طرابلس والميليشيات المتطرفة التابعة لتنظيم داعش. في أيلول 2016، تم تعيينه من قبل البرلمان المنشق في طبرق ليصبح الجناح العسكري له، وليصبح شخصية أساسية لحل الأزمة.

من ناحية أخرى، يتبدى الاحتلال التركي ووجود المرتزقة الأجانب التحدي الرئيس أمام إحلال السلام المنشود في ليبيا؛ فعلى الرغم من نجاح العملية السياسية في وقف العنف، وبدء تفاعلات صحية ولقاءات في البلاد، فإن هذه العملية، في كل مستوياتها حتى الآن – منذ عملية “برلين 1” ثم اجتماع برلين الثاني – لم توضع خطة متكاملة وآليات محددة للتعامل مع ظاهرة المرتزقة الأجانب والوجود العسكري التركي، ولا كيفية التعامل مع الميليشيات المسلحة والسلاح غير الشرعي الممثل في ملايين من قطع السلاح الثقيلة والخفيفة التي تم الحصول عليها، سواء بالتهريب، أو بالاستيلاء على أسلحة كانت ملكا للجيش الليبي خلال سنوات الانهيار، أو حتى خلال المعارك الأخيرة. وعلى الرغم من أنه يمكن القول إن هناك لغة خطاب إيجابية أخيرا، بخاصة من جانب مجلس الأمن الدولي، وأغلب الأطراف الدولية، فيما يتعلق بخروج المرتزقة الأجانب وإنهاء حمل السلاح خارج الدولة، كما توجد تهديدات بفرض عقوبات ضد من يصر على عرقلة العملية السلمية، إلا إنه لم تُفرض هذه العقوبات حتى الآن، ولم تُتخذ قرارات محددة، فيما يصر النظام التركي علنا على البقاء العسكري بحجة اتفاقيته مع حكومة الوفاق التي انتهى وجودها، على الرغم من عدم استناد هذه الاتفاقية إلى أسس قانونية وشرعية. كما أن حكومة الدبيبة الحالية ووزيرة خارجيتها، نجلاء المنقوش، دعتا صراحة إلى خروج كل القوات الأجنبية. وعلى الرغم من كل هذا، فإن هناك جمودا ملحوظا في هذا الملف، وهو ما يشكل أهم أبعاد التحديات الحقيقية لفرص الاستقرار والتسوية الحقيقية في ليبيا، فمع كل التحسن في المشهد سيظل الانفراج الحقيقي رهنا بترتيبات عملية للتعامل مع هذه التحديات.

بناء على ما تقدم، تبدو مهمة انتقال ليبيا من مرحلة الحرب إلى السلم وإعادة بناء المؤسسات السياسية والدستورية تمهيدا لإعادة إعمار البلاد، التي تسعى حكومة الدبيبة لإنجازها في حيز زمني وجيز (حتى نهاية العام الحالي) غير مفروشة بالورود. إذ تواجه الحكومة الليبية تحديات جمّة تكشف إلى أي حد تعتمد على الدعم الخارجي في تفكيك العقد الأمنية المتداخلة مع المطامع والمصالح للقوى المتنافسة على النفوذ في البلد. وفي مقدمة هذه التحديات تلبية تطلعات الليبيين العاجلة في حل مشاكل خدمات الكهرباء والوضع الصحي وتحسين مستوى المعيشة؛ وعلى الصعيد السياسي توفير مناخ مصالحة وطنية وتسوية ملفات حقوق الإنسان، ووضع إطار دستوري وقانوني متوافق عليه للانتخابات المقبلة، والتي تعهد المبعوث الخاص لأمين عام الأمم المتحدة، يان كوبيش، بمساعدة ليبيا على تحقيقها في الآجال التي وضعت في محادثات جنيف.

في السياق، فوجئ مراقبون كثيرون باختيار الدبيبة لرئاسة الحكومة في ختام محادثات جنيف التي جرت في بداية في شباط الماضي برعاية الأمم المتحدة، وكيف تفوق على أقطاب المشهد الليبي؛ وها هو اليوم يواجه تحدي تغيير موازين عديدة في تضاريس الأوضاع في ليبيا، فهل تقف ليبيا اليوم على سكة الخروج من نفق الأزمة، وهل تتحقق المعجزة وينبعث الفينيق الليبي من جديد؟