دراساتصحيفة البعث

مجزرة صبرا وشاتيلا.. حلقة في مسلسل القتل والتهجير الصهيوني

د. معن منيف سليمان

جاءت مجزرة صبرا وشاتيلا منسجمةً مع المخطّط الصهيوني منذ اليوم الأول لغزو لبنان عام 1982، وذلك بهدف قتل روح المقاومة لدى الفلسطينيين ودفعهم إلى الهجرة خارج لبنان، إضافة إلى تأجيج الفتن الداخلية في لبنان، ثم الانتقام من الفلسطينيين الذين صمدوا في مواجهة آلة الحرب الصهيونية خلال ثلاثة شهور من الحصار.

صبرا وشاتيلا مخيمان فلسطينيان في لبنان اقترف الغزاة الصهاينة فيهما مجزرة تعدّ من أبشع وأفظع المجازر الجماعية ضد الشعب العربي الفلسطيني، وكان قادة جيش الاحتلال، وعلى رأسهم أرييل شارون، وزير الحرب آنذاك، ورفائيل إيتان رئيس الأركان، هم من خطّط وصمّم وأشرف وشارك في هذه المجزرة البشعة.

ففي أوج الحرب الإسرائيلية ضدّ الفلسطينيين والحركة الوطنية اللبنانية، قامت بعض الميليشيات اللبنانية المرتبطة بـ”إسرائيل”، باقتحام المخيمين بحراسة إسرائيلية وذبح عدد كبير من سكانهما، وتحدثت مصادر فلسطينية عن استشهاد أكثر من اثني عشر ألف فلسطيني.

لقد فاجأ القتلة سكان المخيمين الآمنين، ودفعوا أبواب البيوت بقوة، ودخلوا يحملون السواطير والفؤوس والأسلحة الرشاشة، واندفعوا تجاه أفراد العائلة تلو الأخرى، وانقضوا عليهم قبل أن يستفيقوا من دهشتهم، ورافقت ذلك كله الجرافات التي تهدم البيوت على رؤوس أصحابها، ثم بدأ دور الرصاص لإنجاز المجزرة بيسر وسرعة. وكان الطوق الإسرائيلي مساء الخميس 16 أيلول قد أحكم بشدة على المخيمين، وأطلقت قنابل الإنارة طيلة ليلة الخميس- الجمعة، وكانت وحدة المدفعية الإسرائيلية في بيروت تطلق قنبلة كل دقيقتين لإنارة المخيمين لأفراد الميليشيات اللبنانية. وشاركت في هذه المجزرة أكثر من 150 دبابة صهيونية، و100 مدرعة، وقد هنأ شارون آنذاك، جميع القتلة بقوله: “إني أهنئكم، فقد قمتم بعمل جيد ورائع”.
وذكر أن هناك عدداً كبيراً من المفقودين خلال هذه المجزرة، قدّرت عددهم وكالة الصحافة الفرنسية بأكثر من 2000، والمفقودون هم كل الذين اقتيدوا في الشاحنات إلى جهة مجهولة، وكتبت صحيفة “نيويورك تايمز” تقول إن الأوساط الدبلوماسية الأمريكية تخشى أن يكونوا قد نقلوا إلى الجنوب ليذبحوا هناك. ويسود الاعتقاد بأن نحو ربع الضحايا كانوا لبنانيين أما الباقون فهم من الفلسطينيين.

اضطرت ردّات الفعل الدولية الكيان الصهيوني، إلى إنشاء لجنة للتحقيق في المجزرة برئاسة إسحق كاهانا رئيس المحكمة العليا، وحدّد مجلس الوزراء الصهيوني مهمة تلك اللجنة بقوله إن المسألة التي ستخضع للتحقيق هي جميع الحقائق والعوامل المرتبطة بالأعمال الوحشية التي ارتكبتها وحدة من “القوات اللبنانية” ضدّ السكان المدنيين في مخيمي صبرا وشاتيلا. فانطلق التحقيق مستبعداً المشاركة الصهيونية في المجزرة، ولذا كان متوقعاً أن تأتي نتائج التحقيق على النحو المعلن آنذاك، مكتفياً بتحميل الصهاينة مسؤولية “الإهمال” أو “سوء التقدير”!!.

كما خلصت اللجنة بعد شهور إلى أن شارون المعروف بمسؤوليته المباشرة عن مجازر سابقة كقبية (1955) ولاحقة كمخيم جنين (2001) مسؤول بشكل غير مباشر لأنه وجّه الميليشيات اليمينية. واضطر شارون للاستقالة من منصبه وتوارى عن المسرح السياسي لسنوات، لكنه عاد مطلع عام 2001، أقوى مما كان وأصبح رئيساً للحكومة.

وعلى الرغم من أن لجنة التحقيق الدولية التي تشكلت للتحقيق في المجزرة حمّلت الجانب الإسرائيلي المسؤولية القانونية عن المجزرة كون “إسرائيل” قوة احتلال كانت تسيطر على منطقة المذابح، وبالتالي فهي مسؤولة عن حماية السكان طبقاً لاتفاقية جنيف لعام 1949، إلا أنه لم يتمّ جلب أي من المجرمين المباشرين وغير المباشرين أمام العدالة. ولقد جرت محاولات عربية وأخرى دولية غير حكومية لمحاكمة هؤلاء في لاهاي وأماكن أخرى من العالم، إلا أنها لم تنجح.

كشفت مجزرة صبرا وشاتيلا حقيقة العدالة الدولية العرجاء التي تتحكّم بها الدول الكبرى، وهي حقيقة تزداد وضوحاً يوماً بعد يوم. ذلك أن الدول التي حرصت على محاكمة حكام يوغسلافيا السابقين بتهم ارتكاب جرائم حرب هي نفسها التي تمنع محاكمة مجرمي الحرب الإسرائيليين رغم توفر كل الأدلة القانونية التي لا لبس فيها على تورطهم في إعطاء الأوامر والإشراف على التنفيذ المباشر.

إن ازدواجية المعايير التي تمارسها الدول الكبرى هي التي تركت جزّاري صبرا وشاتيلا طلقاء، وهي التي تركتهم مرة أخرى طلقاء بعد مجزرة مخيم جنين، حتى أن الأمم المتحدة لم تتجرأ على إجراء تحقيق حول ما جرى ما يكشف شللها، نتيجة سيطرة القوى الكبرى عليها والتي تنصّب نفسها شرطياً على العالم، بذرائع مختلفة، مع أنها هي التي ترعى أكبر إرهاب في العالم “إسرائيل”، وتمارس الاحتلالات المباشرة وغير المباشرة وتسوغ إجرام المجموعات الوهابية الإرهابية في سورية، وتدعم المشروع الصهيوني ومجازره الوحشية التي لم تكن صبرا وشاتيلا إلا نموذجاً عنها!.