دراساتصحيفة البعث

هل تنجح أوروبا في تشكيل قوة رد سريع؟

تقرير إخباري

 

لعل أبرز تبعات الانسحاب من أفغانستان كانت إعادة إحياء الاتحاد الأوروبي فكرة تشكيل جناح عسكري بعيداً عن حلف الناتو، على الرغم من وجود محاولات سابقة، لكنها باءت جميعها بالإخفاق، وكان للرئيس الأمريكي جو بايدن دور كبير في التفكير بهذا الاتجاه، وترجع فكرة تشكيل جيش خاص بالقارة العجوز إلى تسعينيات القرن الماضي بعد تفكك يوغسلافيا، وتكررت المحاولات، وكان أحدثها خلال الأشهر القليلة الماضية بدفع من الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون، والمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، ولتلك الفكرة عقبات وتحديات أهمها ما إذا كان تأسيس مثل هذا الجيش أو القوة ممكناً من الناحية العملية، لاسيما بعد خروج المملكة المتحدة من الاتحاد الأوروبي، فهل تنجح أوروبا في تشكيل هذه القوة؟.

يرى بعض أبرز ساسة الاتحاد الأوروبي منذ سنوات أن هذا الاتحاد لكي يصبح قوة عالمية حقيقية يحتاج لقوة دفاعية خاصة به، مستقلة عن حلف الناتو، ولا تعتمد على الولايات المتحدة، ويذكر أن بريطانيا كانت وقفت ضد إنشاء جيش أوروبي، كما أن هذه الفكرة آلمت الأمريكيين وأعلنوا عن أسف بلادهم لعدم اشتراك مجموعات قتالية أوروبية في المعارك الحربية، لكن وزراء الدفاع في الاتحاد وضعوا مؤخراً المقترح بالفعل على أجندتهم خلال اجتماع دوري في شهر أيار الماضي، ويدعو المقترح إلى تأسيس كتيبة قوامها خمسة آلاف جندي، مدعومة بسفن وطائرات حربية بغرض مساعدة الحكومات الأجنبية “الديمقراطية” التي تكون بحاجة لدعم عسكري عاجل، وقدّر وزير الدفاع السلوفيني ماتي تونين، الذي تتولى بلاده الرئاسة الدورية للاتحاد الأوروبي، أن قوة الرد السريع يمكن أن يتراوح عددها بين “5- 20 ألف عنصر”.

ورأت وزيرة الدفاع الألمانية كارنباور أن العبرة مما حصل في أفغانستان هي أن “علينا أن نصبح مستقلين أكثر بصفتنا أوروبيين، وأن نكون قادرين على التحرك بشكل مستقل أكثر”، وأضافت: “لكن، من المهم جداً ألا نتصرف كبديل عن حلف الأطلسي والأمريكيين”.

وقد عاد رئيس وزراء التشيك منذ أسابيع وطرح هذه القضية من جديد، وقال: “لقد أدركت حتى بلدان وسط أوروبا أنه لمواجهة موجات تدفق اللاجئين، فإنه من الضروري أن تكون الحدود الداخلية لأوروبا تحت حراسة أفضل، وهذا يعني أننا لن نتمكن من عمل ذلك على المدى البعيد من دون جيش أوروبي”.

أما الدول الأخرى التي تقدمت بالاقتراح، إلى جانب فرنسا وألمانيا، فهي: اليونان وقبرص والنمسا وبلجيكا والتشيك وايرلندا وايطاليا ولوكسمبورغ وهولندا والبرتغال واسبانيا وسلوفينيا.

لا شك في أن مدة وجود الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب في البيت الأبيض، وسياساته الانعزالية، وشعار “أمريكا أولاً”، كان لها أثر ضخم في إعادة إحياء فكرة تكوين قوة عسكرية أوروبية مستقلة، ووصل الأمر إلى حد وصف ماكرون حلف الناتو بأنه “ميت سريرياً”، وما نجم عن ذلك من جدل وانتقادات شديدة.

وبعد خروج بريطانيا بالفعل من الاتحاد الأوروبي، وتفعيل اتفاقية “بريكست”، ازدادت الحاجة- من وجهة نظر قادة أوروبيين أبرزهم الرئيس ماكرون- لتشكيل جناح عسكري للاتحاد.

العامل الآخر في هذا السياق هو التغيير الجذري الذي يشهده المسرح السياسي الدولي بشكل عام، وفي أوروبا بشكل خاص، في ظل النمو الكبير لتيار اليمين الشعبوي، والنزعات القومية التي نتج عنها خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي من خلال “بريكست”، وتوجد في فرنسا نفسها حركة مشابهة “فريكست”، وإن كانت أقل زخماً، إلا أن فوز بايدن بالرئاسة الأمريكية، ورفعه شعار “أمريكا عادت”، تسببا في تهدئة خواطر الحلفاء بصورة كبيرة.، لكن الانسحاب الفوضوي، وعمليات الإجلاء من أفغانستان، أعادا إحياء النقاش المستمر منذ عقود داخل الاتحاد الأوروبي حول فكرة إنشاء قوة رد سريع.

وبعد أن رفض الرئيس بايدن دعوات لإبقاء القوات الأمريكية في أفغانستان بعد الموعد النهائي المحدد في 31 آب، رأى القادة الأوروبيون أن ذلك لم يترك أمامهم أي خيار سوى وقف عمليات الإجلاء، والتخلي عن الآلاف من مواطنيهم وحلفائهم الأفغان، فقد رأى مسؤولون أن قوة مشتركة للنشر السريع قوامها خمسة آلاف جندي كان يمكن أن تساعد في تأمين مطار كابول، وأن استراتيجية أمنية أوروبية منسقة كانت لتمنح الاتحاد المزيد من التأثير على “توقيت وطبيعة الانسحاب”.

وفي هذا الصدد تقول ناتالي لوسو التي ترأس اللجنة الفرعية للأمن والدفاع في البرلمان الأوروبي: “ما حدث في أفغانستان كان لحظة حاسمة”، وقالت: “إنه حين قررت الولايات المتحدة الانسحاب من البلاد لم يحدث تنسيق يذكر مع حلفائها، ورفض بايدن الدعوات الأوروبية إلى “انسحاب مرهون بشروط”، ورفض تمديد الموعد النهائي للانسحاب”.

وعلى الرغم من أن الاتحاد الأوروبي يمثّل بالفعل قوة اقتصادية كبيرة هي منطقة اليورو استطاع من خلالها أن يمتلك “قوة ناعمة” لها تأثيرها في مجالي التجارة والمساعدات، وأن أوروبا بالفعل لديها تحالف عسكري قائم وناجح وفعال، حيث إن غالبية دول القارة أعضاء في حلف الناتو، كما أن التدريبات العسكرية المشتركة، والتنسيق الأمني والعسكري بين الأعضاء لمواجهة التهديدات المشتركة، قائمان بالفعل، إلا أن ثمة شكوكاً جدية حيال قدرة الأوروبيين على التوصل إلى مثل هذا المشروع، إذ إن فكرة وجود جيش أوروبي واحد بقيادة واحدة ورؤية منسقة بشأن الأزمات داخل وخارج القارة العجوز مجرد فكرة تبدو وردية، لكن تنفيذها على الأرض أمر أقرب للمستحيل، بحسب المراقبين، بالإضافة إلى أن تنفيذها يحتاج إلى وقت طويل يتراوح من 5 -10 سنوات، والاتحاد لا يملك هذا الوقت، كما أن إنشاء هذا الجيش سيزيد من اختلال التوازن في الاتحاد، حيث ستشغل بعض الدول مثل ألمانيا دوراً رئيساً على حساب غيرها من الدول، يؤكد ذلك إعلان ألمانيا قبل شهر عن زيادة عديد قواتها المسلّحة، وهذا أمر ليس اعتباطياً، ما أثار قلق بعض الدول، خاصة دول البلطيق التي تخشى نسخ تجربة الناتو، ويُستبعد أن تدعم قوة مشتركة جديدة.

لقد أشار النائب الأول لرئيس لجنة الشؤون الخارجية في مجلس الاتحاد فلاديمير جباروف إلى هذا الخلل فقال: “نحن نعلم أن العمود الفقري لهذا الجيش سيكون ألمانيا، وهذا يثير مخاوف كبيرة، لأن السيدة ميركل تدعو إلى وحدة أوروبا، وتعد ألمانيا حالياً المانح الرئيس للاتحاد الأوروبي، حيث تعتمد عليها البلدان كافة، وعندما يظهر الجيش، ماذا سيحصل؟ أعتقد أن هذه الفكرة لن تبصر النور، لأن دافعي الضرائب لن يرغبوا بتمويلها، كما أن الناتو سيعمل من أجل المحافظة على نفوذه في أوروبا”.

ومن العقبات الكبرى الأخرى أمام تشكيل قوة مشتركة أن الاتحاد الأوروبي سيصبح ملزماً بتوحيد قراراته الخارجية واتخاذها بالإجماع، وكثيراً ما أعاقت فكرة الإجماع عملية صنع القرار في الاتحاد، إذ إن السياسة الخارجية الأوروبية ليست ناجحة، والاتحاد الأوروبي لا يغنّي على النغمة نفسها كما كان يفعل من قبل حتى لو تمكن من تشكيل هذه القوة فعلياً، فاحتمال موافقة جميع البلدان بالإجماع على مسار عمل معين مستحيل عملياً وفق تحليل المراقبين.

ومن الأسئلة الشائكة الأخرى عن هذه القوة المشتركة: من سيدفع ثمنها؟ فالاتحاد الأوروبي خصص أكثر من 9 مليارات دولار لصندوق الدفاع الأوروبي حتى عام 2027، لكن الخبراء يقولون: إن كل دولة على حدة ستحتاج أيضاً إلى زيادة إنفاقها، وهذا قد يكون صعباً بالنظر إلى أن تسع دول أوروبية فقط في طريقها لإنفاق ما لا يقل عن 2 بالمئة من ناتجها المحلي الإجمالي على الدفاع هذا العام للوفاء باتفاقية الناتو.

وعلى الرغم من هذا الخطاب الحماسي الجديد، لاتزال فكرة تشكيل جيش أوروبي في بعض أركان القارة مجرد خيال، ومدعاة للسخرية في مناطق أخرى، وخلصت بعض التقارير إلى أن تأسيس قوات مسلّحة أوروبية ليس ممكناً، وأن تنفيذ الفكرة أمر معقّد ومكلف مالياً ومضيعة للوقت، وفي النهاية لا معنى له من الأساس.

 

د. معن منيف سليمان