ثقافةصحيفة البعث

رواية “شوارع الغضب”.. زمن مراوغ بين الواقع والخيال

إذا كانت الحكاية هي عصب الرواية وعمودها الفقري، ففي رواية “شوارع الغضب” لأمين الساطي حكايتان، حكاية الواقع، وحكاية الخيال الذي يقارب واقعاً لم يعشه الراوي بتفاصيله. وإذا كانت أصابع الزمن تجمع خيوط الأحداث في أية رواية، ففي هذه الرواية زمنان، زمن حقيقي لا يتجاوز اليومين، وزمن وهميّ يخاتل الحقيقة ويموّه الأحداث لتجد نفسك تائهاً عند الحدّ الفاصل بين الحقيقة والخيال.

وإذا كان المكان مسرحاً للأحداث، ففي هذه الرواية مكان حقيقي واحد، تنطلق الأحداث من خلاله عبر نفقٍ إلى الكثير من الأمكنة التي شهدت قوة الأحداث والحبكة الروائية، بخيط وهميّ بين حقيقة ما عاشه الراوي وخياله الذي يقارب حقيقة ما يعيشه لبنان في المرحلة التي عاش في إطارها أبطال الرواية. وإذا كانت الشخصيات هي المحرك الأساسي للأحداث، ففي “شوارع الغضب” شخصيات حقيقية قليلة لا يتجاوز عددها أصابع اليد الواحدة، وشخصيات أخرى يمتزج فيها الواقع بالخيال.

بين الحقيقة والخيال

حين تقرأ “شوارع الغضب” سيدور برأسك خاطر لن يغادره حتى الصفحة الأخيرة من الرواية، هذا الخاطر سيجعلك مذهولاً أمام بعض المصادفات التي لا تحدث إلا في حكايات ألف ليلة وليلة، كالمصادفة التي جمعته بسعاد، وثقة زعيم عصابة المخدرات به بسهولة بالغة رغم وجود ثأر سابق بينهما، وجلسات السحر واستحضار الأرواح التي قامت بها الأثيوبية آديلي في شقته، وغير ذلك الكثير من المشاهد التي تجعلك مندهشاً، ولا تزول هذه الدهشة إلا في الصفحة الأخيرة حين يصحو الراوي من التخدير بعد يومين قضاهما في العناية المركزة غائباً عن الوعي.

فساد سياسي وأخلاقي

تعجّ الرواية بالفساد والفاسدين سواء على مستوى الطبقة الحاكمة أم على مستوى بعض طبقات الشعب التي تستفيد من الفساد وتتاجر بالشعارات التي يرفعها المطالبون بسقوط الحكومة الفاسدة. ففي ساحة رياض الصلح حيث يجتمع المتظاهرون للتنديد بفساد الحكومة، يجتمع أيضاً تجار المخدرات للتسويق لبضائعهم، ويجتمع اللصوص لنهب ما يستطيعون نهبه جراء اقتحام وتكسير المحلات التجارية، ويتعلّم هناك كلّ منهم ما ينقصه من فنون الفساد، كما حصل مع الراوي وأبي أيمن. حيث تحوّل الراوي من متعاطٍ للحشيش إلى تاجر للمخدرات وعضو في عصابة كبيرة تقوم بتهريبها، إضافة إلى عمليات تزوير الدولارات، فضلاً عن حمل السلاح والدخول في معارك ثأرية، ومحاولة قتل زوج ناديا. ويضاف إلى هذا تباهيه بشجاعته أثناء المعارك الأهلية في لبنان حيث كان القتل بالمجان: “كنت أحياناً أشعر بأنني الله، لأنني أنا كنت من يقرّر من سيعيش ومن سيموت من الأشخاص المشبوهين، الذين نوقفهم على الحاجز في وسط بيروت” ص91.

ويجد الراوي تبريراً لكل ما يمارسه من فساد بأن الحكومة فاسدة، وأن ما يقوم به لا يقارن بالسرقات الكبيرة والصفقات الدسمة التي يقوم بها السياسيون الكبار ورجال الأعمال. وقد تجاوز الفساد حدّه ليغدو فساداً إنسانياً؛ تجلّى بسرقة أبي أيمن لساعة روليكس ذهبية من يد أحد المصابين، ما جعل الراوي على الرغم من فساده يشعر بالاشمئزاز: “لاحظ من نظراتي الفارغة، اندهاشي من وجودها معلقاً: “الله يرحمه… لو ما أخذتها أنا، لأخذها ممرض الإسعاف” ص67.

أحداثٌ تترجّح بين الخيال والواقع

تحدّث الكاتب على لسان سارده القابع في غرفة العمليات والغائب عن الوعي فيها عن أحداث مهمة جداً في تاريخ بيروت، أهمها الانفجار الكبير الذي حصل في المرفأ، وليس أقلها إطلاق قذيفة باتجاه القصر الجمهوري في بعبدا لتتبعها معارك حامية أدّت إلى سقوط القصر الجمهوري واستلام الجيش الحكم مؤقتاً لإنقاذ لبنان من الطبقة السياسية التي تحكمه.

كان سرد الحدث الأول زمنياً في الوقت الذي كان فيه السارد تحت تأثير المخدّر، أما الثاني فقد كان سرده في لحظة صحوه من التخدير، لكأن الكاتب يرمّز بذلك إلى اللحظة الانتقالية التي نقلت لبنان من مرحلة استلابه من الطبقة السياسية الفاسدة إلى مرحلة حمّلها اللبنانيون حلم الخلاص. هي لحظة الصحو، لحظة العودة “من سفرة متعبة من خلال نفق مظلم طويل” ص146، لكأن هذه العودة هي عودة للبنان من غيبوبته في ظل الفساد.

بعيداً عن الشِّعرية

تميّزت لغة السرد بالبساطة والمباشرة بغير ابتذال، تصل بساطتها أحياناً درجة الحديث العادي لعامة الناس كما في السياق التالي: “وضعت طاقيتي الصوف الرمادية على رأسي، وأخذت حالي، وبدأت أتفقد المنطقة” ص90.

وهي على بساطتها قوية مترابطة التراكيب واضحة المعاني تملك القدرة على التشويق بانسيابيتها وسلاستها. ولا تقتصر البساطة في اللغة على السرد، بل تزداد بساطة في الحوار الذي تبدو فيه البساطة مطلوبة لتتناسب مع طبيعة الحديث العادي بين الناس.

باختصار

استطاع الكاتب أن يُدخلنا معه في النفق في صفحته الأولى، وألّا يُخرجنا منه إلا في الصفحات الأخيرة، أدخلنا معه في غيبوبته، لتسرح أرواحنا مع روحه في رواية كتبها بوعيه عن لاوعيه، لنصحو معه في الصفحة الأخيرة، وننتشي بالنهاية التي جعلت كل الفساد الذي قرأناه فيها محض وهم، بينما ينتشي هو بحبّ ناديا التي كان عاتباً عليها لعدم زيارتها له في المشفى، ليجدها أمامه وقد “انفجرت في البكاء، واقتربت مني، ومررت أناملها على خدي، فشعرت بحبها ينساب في عروقي” ص146.

سمر أحمد تغلبي