مجلة البعث الأسبوعية

الراحل بوتفليقة.. قاد الجزائر نحو السلام والاستقرار وأسقط أقنعة “الإخوان”

“البعث الأسبوعية” ــ هيفاء علي

توفي الرئيس عبد العزيز بوتفليقة في 17 ايلول الجاري، عن عمر ناهز 84 عاما. وهو من رجالات الدولة الأقوياء النادرين الذين واجهوا بقوة وحزم المحاولات الغربية الرامية لزعزعة استقرار الجزائر، وأنقذ البلاد من إرهاب وبراثن الجماعات المسلحة عند فوزه بأول ولاية رئاسية في نيسان 1999. مصدر قوته كان قدرته على إقناع محاوريه، جعل أصدقاءه يضحكون وأذهل معجبيه بعيونه الزرقاء وابتسامته الساحرة. ورغم أنه غادر الحكم وانسحب من الحياة السياسية قبل عامين بعد أكثر من ستين عاما قضاها في خدمة بلاده بين الثورة التحريرية (1954 – 1962)، وأعوام الاستقلال، وبعد مرضه، فقد شاهد العالم أجمع جموع الجزائريين الغفيرة التي خرجت وشاركت في موكب جنازته حيث أقيمت له جنازة رسمية وشعبية لا تقل أهمية عن جنازة ملهمه ورفيق دربه الرئيس الراحل هواري بو مدين، ما يدل على حجم شعبيته الكبيرة ومحبة الشعب الجزائري له، حتى عندما خرجوا ضد ولايته الخامسة. ويعود الفضل له في ميثاق السلم والمصالحة الوطنية عام 2005، الذي شكل بداية نهاية ما كان يعرف بـ “العشرية السوداء”، أي فترة التسعينيات في القرن الماضي.

بدأ بوتفليقة مشواره السياسي كـ “أصغر وزير في العالم” عقب استقلال الجزائر، في عهد الرئيس الراحل أحمد بن بلة، عندما تولى حقيبة الشباب والرياضة، ثم “أصغر وزير خارجية في العالم” في عهد الرئيس الراحل هواري بومدين، إلى أن بات “أطول رؤساء الجزائر حكما”؛ وعندما وصل بوتفليقة إلى الحكم، كانت البلاد لا تزال تعيش على وقع مجازر الجماعات الإرهابية، ليباشر برنامجه في استعادة الأمن وإخراج الجزائر من “العشرية السوداء” التي عرفت مقتل أكثر من 250 ألف جزائري، وخسائر مادية تفوق 40 مليار دولار.

 

إلى جانب هواري بو مدين

لأكثر من سبب، خدم الحظ هذا الشاب الجزائري المولود في وجدة بالمغرب، عام 1937. ففي التاسعة عشرة من عمره، بعد عشرين شهرا على اندلاع الكفاح المسلح، تم تدريبه، في حزيران 1956، مثل جميع الشباب الجزائريين، في السلطنة الشريفية من قبل رئيس الولاية “5” عبد الحفيظ بوسوف، إلا أن المدرب العسكري آنذاك، هواري بومدين، استبعده بسبب صغر حجمه، وأرسله بصفة “مراقب” إلى مقاتلي وهران عبر الحدود، يطلع رؤساء القبائل على ما يحدث على الأرض. في آب 1957، بحث خليفة بوسوف، هواري بومدين، عن سكرتير “يمكنه الكتابة” لتدوين أوامره، ليبقى معه على مدى أكثر من عقدين، وحتى وفاته.

وبسرعة كبيرة تخصص في العلاقات الخارجية وأشرف على فتح جبهة ثانية ضد الجيش الفرنسي في مالي، وحاول إغواء القادة “التاريخيين” المسجونين في فرنسا للالتحاق بـ بومدين. وأصبح عضو مجلس النواب عن تلمسان، ومن ثم وزيرا للشباب مع إعلان الاستقلال عام 1962، ووصل إلى وزارة الخارجية عام 1963.

في حزيران 1965، وقع الانقلاب ضد الرئيس أحمد بن بلة، وهو الانقلاب الذي حمل بومدين إلى الرئاسة. في هذه الأثناء، بقي بوتفليقة محافظا على حقيبته، مؤكداً صوت الجزائر في الخارج. وفي عام 1970، بدأ مفاوضات مع باريس حول ملف النفط الجزائري، لكن المباحثات فشلت، لتبادر الجزائر إلى تأميم قطاع الطاقة، في 24 شباط 1971.

 

بوتقليقة إلى الأمم المتحدة

فترة السبعينيات ستكون صعبة على الوزير الشاب. فمع انعقاد قمة عدم الانحياز في الجزائر العاصمة، عام 1973، أصبح الرئيس بومدين أحد أكبر الأصوات في العالم الثالث. وفي عام 1974، تم انتخاب بوتفليقة رئيسا للجمعية العامة للأمم المتحدة، وانتقل إلى نيويورك مدة عام.

في عام 1994، كان الجنرالات، الذين كانوا يتصارعون في ميدان حرب أهلية شرسة، يبحثون عن مدني لقيادة البلاد. ووقع اختيارهم على الشاب عبد العزيز بوتفليقة الذي رفض أن يعين من قبل المجلس الانتقالي، وقال عندها: “إذا كان الجنود يريدونني، فليسموني!”. بعد خمس سنوات، أجبرت الأجهزة الأمنية الرئيس اليمين زروال، على الاستقالة. ومرة أخرى، جرى البحث عن خليفة مدني معروف للعالم الخارجي. وهذه المرة، قبل بوتفليقة المنصب عقب إجراء انتخابات كان فيها المرشح الوحيد بعدما انسحب الآخرون.

ومن بين ولايات الرئيس بوتفليقة الأربع، كانت الأولى هي الأكثر نجاحا. حيث حرر نفسه من الوصاية العسكرية، وانتهى من استعادة السلم الأهلي الذي تضرر إلى حد كبير من قبل أسلافه، وأطلق دراسات حول إصلاح الدولة والعدالة، وأعاد المالية العامة، وللجزائر مكانتها على الساحة الدولية.

الولاية الثانية بدأت صعبة، حيث أقيل علي بن فليس، رئيس الوزراء والأمين العام لجبهة التحرير الوطني الذي خاض الانتخابات ضده، وأحيل قائد الجيش على التقاعد وحل محله الجنرال أحمد قايد الملقب بـ “صلاح”.. في هذه الأثناء، بدأت أسعار المشتقات النفطية بالارتفاع، وغرقت الجزائر بالدولارات بما يفوق أحلامها. وفي مواجهة هذه المشكلة، أصغى بوتفليقة لنداء وزير ماليته، وأنقذ بلاده على وقع تصفيق الشعب الذي أذلته وأفقرته خطط صندوق النقد الدولي قبل عشر سنوات. تم سداد الدين الخارجي حتى آخر دولار، لكن ثمة إجراءات قسرية جعلت حجم الإنفاق يقفز إلى أعلى المعدلات بدءا من العامين 2005 و2006، ما مكن من الحفاظ على السلام الاجتماعي من خلال دعم السلع الأساسية والوقود والطاقة، وإطلاق سياسة إسكان طموحة ترقى إلى تمويل بناء مئات الآلاف من المنازل الممنوحة مباشرة للمستأجرين الذين لا يستطيعون دفع الإيجار.

تميزت ولايته الثالثة (2009 – 2014) برفاهية مالية غير مسبوقة: الأموال تتدفق بحرية، والأسواق عملاقة، وبوتفليقة، الذي يريد افتتاح المشاريع، يناشد الصينيين الذين لبوا النداء وهرعوا إلى مواقع البناء الرئيسية – بما في ذلك الطريق السريع بين الشرق والغرب، حيث أثبتت الصين نفسها في الجزائر كمورد رئيسي للبلاد.

في نيسان 2013، تعرض بوتفليقة لجلطة دماغية تم نقله على أثرها إلى مستشفى” فال دو غراس”، حيث قضى أسابيع طويلة في فرنسا. وقبل أقل من عام على الانتخابات الرئاسية، كادت السلطة تنقسم بعدما أعلن رئيس المخابرات والأمن ترشح الرئيس لولاية رابعة. نشبت معركة ضارية، لكن بوتفليقة فاز في الانتخابات. وفي الواقع لم يعد هو في السلطة ولكن شقيقه سعيد، وهو أكاديمي هادئ، سيتعين عليه مواجهة أسوأ أزمة نفطية بعد الحرب، حيث انهارت الأسعار وشهدت البلاد انخفاضا في عائداتها من النقد الأجنبي. ولمدة خمس سنوات، اكتفت الحكومة بالاعتماد على القوة المالية التي تم تشكيلها خلال “العقد المجيد” (ما يقرب من 200 مليار دولار). أصيب سعيد بدوره بالمرض، واعتمد أكثر فأكثر على مجموعة من رجال الأعمال الذين نهبوا الخزانة العامة بألف طريقة: قروض بنكية بدون فائدة، إعانات، تبرع بالأراضي العامة، تخفيضات ضريبية وغير ذلك..

 

الرئيس الذي كشف حقيقة الإخوان

ومن بين ما يحسب للرئيس بوتفليقة كشفه حقيقة المعارضة الجزائرية، خاصة الإخوان المسلمين منها، حيث تمكن خلال فترة حكمه من إسقاط القناع عن المعارضة الإخوانية، بعد أن استدرجها إلى الحكومة، وإلى تحالف رئاسي كان الإخوان جزءا منه من خلال “حركة مجتمع السلم” مع جبهة التحرير والتجمع الوطني الديمقراطي. كما نجح، عام 1999، أيضا في كسب “أشرس معارضيه”، وأبرزهم وزيرة الثقافة السابقة خليدة تومي، ووزير التجارة الأسبق عمارة بن يونس، ووزير الأشغال العمومية الأسبق عمار غول، وسعيد سعدي الرئيس السابق لحزب “التجمع من أجل الثقافة والديمقراطية”، وباتو من أكبر المؤدين له. وبحسب المراقبين، فإن سياسة بوتفليقة، ورغم أنها صدمت الجزائريين، إلا أنها كشفت عن زيف غالبية المعارضة ونفاق الإخوان “الموالين نهارا والمعارضين ليلا”.

لقد بدد موكب تشييع بوتفليقة، وجنازته المهيبة، ووداع الجزائريين الحاشد له، كل الأقاويل التي حاول البعض الترويج لها حول مرحلة قوية وحاسمة ومشرقة في تاريخ الجزائر، يجسدها جيل بوتفليقة، وقبله هواري بو مدين، وأثبت أن هذه المرحلة لا تزال راسخة في ضمير ووعي الجزائريين، ولا يمكن محوها من الذاكرة بالسهولة التي يتصورها البعض.. مرحلة إشراق ونضال ووحدة وطنية رغم كل الاضطرابات التي شهدتها البلاد، وتشهدها المنطقة العربية، في الآونة الأخيرة..