مجلة البعث الأسبوعية

زمـن مـن ورق

“البعث الأسبوعية” ــ سلوى عباس

لطالما كانت المكتبة ثمرة من ثمرات النضج الثقافي، وجدت عندما ظهرت المسجلات المكتوبة في تنظيم العلاقات الإنسانية، لذلك أنشئت لتكون مزار رواد العلم؛ وتنوعت المكتبات حسب التدوين من الرُقُم المسمارية والألواح الطينية إلى الكتاب والورق ثم إلى عالم الميديا، كما تتطور أداة نقل المعرفة وحفظها من مجتمع إلى آخر ومن عصر إلى آخر.

في زمن يناهد الثقافة والجمال، يعود لثمانينيات القرن العشرين، كانت مكتبة نوبل تمثل ملمحاً ثقافياً مهماً في دمشق، وقبلة للكثير من طلاب الثقافة والمعرفة، وشكلت حضوراً متميزاً في ذاكرة مثقفي سورية والقراء الذين تحولوا مع الزمن إلى أصدقاء حقيقيين لأصحابها الأخوين، جميل وأدمون نزر، هذه المكتبة التي شكلت محطة من أجمل محطات حياتنا كجيل كان الكتاب زاده المعرفي الأول وإغلاقها الآن في هذه الظروف القاسية هو موت الجميل والحميم من مفردات حياتنا، وقد ضجت منصات التواصل الاجتماعي بقرار إغلاقها الذي قسم رواد هذه المنصات بين من حزن على ما وصل إليه حال الثقافة والكتاب، وبين من سخر من هذا الحزن واعتبره مبالغاً فيه، وهذا ليس بجديد على من اتخذوا من هذه المنصات منبراً لآراء يطلقونها لا تحمل من الموضوعية أي شيء، فالقضية ليست في إغلاق مكتبة فقط، بل بما يحمله تناقص عدد المكتبات التي تشكل ثروة كبيرة حتى في الزمن الاستهلاكي من ظاهرة سلبية، وإغلاق بعضها يمثل صدى موجعاً في أوساط المثقفين والمهتمين بالكتاب، خاصة بعدما انخرط هذا الجيل في القراءة الافتراضية على شبكة الانترنت.

في عام 2009، قصدت مكتبة نوبل لاقتناء مجموعة من الكتب وضعها لي أحد الروائيين في المكتبة، وما إن دخلت حتى أخذني فضولي إلى استطلاع عناوين الكتب المرتبة في أرجاء المكتبة حسب نوعية كل كتاب، وبعد دقائق من وجودي بادرني صاحب المكتبة بالسؤال إذا كان باستطاعته مساعدتي بشيء، فابتسمت وقلت له: إنه الفضول الذي يلح علينا في حضرة الكتب لمتابعة أي جديد، فامتد الحديث بيننا عن الكتاب وأهميته، وعرفني على نفسه أنه “أدمون نزر”، وحدثني عن تجربته مع الكتب وكيفية تشكيل المكتبة واختياره للكتب التي يقتنيها، وكيف استمرت حتى الآن، وأبدى أسفه للحال الذي وصل إليه الكتاب، وانصراف الناس عنه، وما أصبح عليه طلاب الجامعة الذين يمثل الكتاب آخر اهتماماتهم. وعندما استعرضت الأسباب التي قد تشكل عائقاً أمام الطلاب في اقتناء الكتاب كارتفاع سعره، استنكر هذا السبب واستبعده، واستشهد بجيله الذي كان يوفر مصروفه اليومي ليشتري كتاباً، وجيل هذه الأيام لا يشكل سعر الكتاب عائقاً أمامه لأنه من وجهة نظره ينفق مصروفه في أمور تافهة، إضافة إلى شرائه لكتب بعيدة عن المعرفة والفائدة. ومع ذلك لم يخف السيد أدمون تفاؤله بأن هناك قارئاً حقيقياً متتبعاً للكتب، ومؤمناً بمتعة القراءة رغم التقنيات المتوفرة، ولقناعته أن القراءة تمثل ظاهرة حضارية وما يعيشه الكتاب الآن هو جزء من هذه الأزمة الحضارية الشاملة، كما حدثني عن أهمية وضع خطة معرفية لتشكيل جيل يدرب على ثقافة القراءة وحرفيتها يتذوقها ويحس بمتعتها، وهذا الجيل سينقلها إلى الأجيال الأخرى.

إن خبر إغلاق “مكتبة نوبل”، وما تلاه من ردود فعل بين الناس، يمثل جزءاً من أزمة تعيشها الثقافة بشكل عام والكتاب بشكل خاص، حيث تهيئ المكتبات الرقمية اليوم ظروفا توفر الكتاب الالكتروني والوصول اليسير للقراء أينما كانوا، رغم أنه ليس الجميع سعداء بالكتاب الإلكتروني وما حققه من تطورات على صعيد النشر والتأليف والترجمة والتوزيع والوصول اليسير للقراء أينما كانوا، ولا تزال المعركة محتدمة بين الكتاب الورقي والكتاب الإلكتروني، والإقبال اللافت الذي تشهده المكتبات ودور الكتب ومعارض الكتاب العربية السنوية تخبرنا أن الكتاب الورقي لا زال يحتفظ بجاذبيته وخصوصيته وأنصاره. وفي ظل ظروف العزل والحجر وإغلاق المدارس والجامعات والمكتبات بسبب جائحة “كورونا” تشكل هذه المعارض نافذة للإطلاع على ما أبدعته العقول والثقافات لتجديد العلاقة والصداقة مع الكتاب وإعادة الاعتبار له كخير جليس وتحفيز قدراتنا الذهنية والإبداعية، ويأتي يوم تستعيد فيه المكتبات ألقها المعرفي والثقافي.