مجلة البعث الأسبوعية

سورية وفرنسا.. دمشق من مسرح للأطماع الاستعمارية إلى لاعب دبلوماسي لا يمكن تجاوزه

“البعث الأسبوعية”ــ علي اليوسف

منذ 24 تموز 1920، واجه السوريون القوات الفرنسية في معركة ميسلون، وهم اليوم يعيدون السيناريو نفسه، ولكن بطريقة مختلفة. ومنذ ذلك الوقت تشهد العلاقات السورية الفرنسية تاريخا طويلا ومضطربا، حيث يمكن إرجاع بعض الأصول المبكرة لهذه العلاقة إلى الضابط العسكري الفرنسي، فرانسوا دي توت، الذي قدم النصح للإمبراطورية العثمانية، في ستينيات القرن الثامن عشر، أو حملات نابليون العسكرية الفاشلة إلى بلاد الشام ومصر، عام 1798، أو إلى نهاية الحرب العالمية الأولى عندما عرضت عصبة الأمم بقايا الإمبراطورية العثمانية على بريطانيا وفرنسا.. ويمكن القول أن العلاقات السورية الفرنسية بدأت حقيقة في تلك المرحلة.

حتى يومنا هذا، تحتفظ فرنسا بشيء من النفوذ في مستعمرتها السابقة، والتي وفرت لها، إلى جانب لبنان، بوابة إلى الشرق الأوسط. بالإضافة إلى ذلك، كانت فرنسا مهد إيديولوجية سياسية حديثة تركت تأثيراً هائلاً في بلاد الشام. وكان مؤسس حزب البعث العربي الاشتراكي، ميشيل عفلق، يقرأ بعمق في فلسفة هنري برجسون، ويجد ملاذاً في الحركة الشيوعية الفرنسية، والتقى بزميله الفكري، ورفيقه في الحزب، صلاح الدين البيطار في جامعة السوربون في باريس. ولكن

اليوم ينظر غالبية السوريين إلى فرنسا نظرة ازدراء وسخرية وعداء نتيجة الفظائع والكوارث الإنسانية الناجمة عن انخراطها في الحرب على سورية منذ ما يقرب من عقد من الزمن.

 

أول صدام فرنسي مع سورية

بعد تفكك الإمبراطورية العثمانية بعيد الحرب العالمية الأولى، والإنشاء المؤقت لمملكة سورية بقيادة الملك فيصل، دخلت فرنسا وسورية في أول صدام في تاريخهما الطويل والمضطرب. فقد سعت فرنسا للاستيلاء على الأراضي السورية التي حصلت عليها في صفقتها السرية مع المملكة المتحدة، وشرع الملك فيصل، من جهته، في إقامة مملكة عربية مستقلة. وقد أدى ذلك إلى بدء مسار من التصادم الذي لطالما ظل يطارد العلاقات الثنائية. ومنذ العام 1920، رأت النخب السياسية والاجتماعية في سورية أن فرنسا قوة استعمارية يجب التخلص منها حتى تتمكن سورية من رسم مصيرها كدولة مستقلة وذات سيادة.

بعد وقوفه إلى جانب البريطانيين والفرنسيين للعمل على هزيمة الإمبراطورية العثمانية، دفع الرئيس الأمريكي، وودرو ويلسون، بمبادئ السلام المثالية ذات النقاط الأربع عشرة، ورؤيته للمجتمع دولي، وهو ما رفضه حلفاء الولايات المتحدة بسخرية؛ وحتى عصبة الأمم نفسها فشلت إلى حد كبير بسبب السياسة الداخلية للولايات المتحدة. وقامت فرنسا بدورها بإحداث تغييرات إقليمية دائمة في سورية، حيث سلخت لواء اسكندرون إلى تركيا، في عام 1939، وكان حينها الفيلسوف والمفكر البعثي زكي الأرسوزي صوتاً بارزاً ضد عملية الإلحاق التركية.

ظهرت تداعيات التاريخ الاستعماري الفرنسي في سورية في سنوات ما بعد الاستقلال مباشرة. فقد تراوحت العلاقات بين باريس ودمشق بين ساخنة وباردة. وعندما بدأ قطار الاستقلال السوري في الصعود، تعرضت الدولة الوليدة لثلاثة انقلابات عسكرية، وكل ذلك في عام 1949. كان أول قائد للانقلاب هو الضابط الفرنسي، حسني الزعيم. وبعد سقوطه وإعدامه، تولى سامي الحناوي السلطة قبل أن يطرده أديب الشيشكلي في نهاية العام لمحاولته دفع سورية إلى العراق المدعوم من بريطانيا. وجاء الرئيس الفرنسي فينسينت أوريول، وهو اشتراكي، إلى السلطة في الجمهورية الفرنسية الرابعة، ليشهد على تراجع كبير في نفوذ فرنسا في “ممتلكاتها” الاستعمارية. ومع ذلك، فقد اتخذ نبرة ودية مع الشيشكلي.

بعد سقوط الشيشكلي عام 1954، كانت سورية تمر بتغيرات سياسية سريعة، وتوجهت نحو الاتحاد السوفييتي السابق. وبعد فترة وجيزة من أزمة السويس عام 1956، التي شنت خلالها كل من فرنسا و”إسرائيل” والمملكة المتحدة عدواناً عسكرياً ثلاثياً ضد مصر، أصبح عبد الناصر هدفاً للقوى الغربية. في غضون ذلك، وفي كانون الأول 1956، توجه السوريون والسوفييت إلى الأمم المتحدة للتحذير من خطر وشيك من قبل المملكة المتحدة و”إسرائيل” وتركيا وفرنسا. رأى دبلوماسيون في الأمم المتحدة أن المسرح السوري ينطوي على احتمال تصعيد أكبر من أزمة السويس. ومع وصول الرئيس حافظ الأسد إلى السلطة، في عام 1970، شعرت فرنسا حقاً بتحول سورية من منصة مسرح استعمارية سابقة إلى شريك رقص دبلوماسي خطير.

 

عهد حافظ الأسد

كانت سورية في عهد الرئيس الراحل حافظ الأسد مختلفة كثيراً عما مضى، فبعد أن كانت ساحة لصراعات الآخرين دخلت في منافسة على السلطة خارج حدودها.. سارعت فرنسا للقيام بأول زيارة دولة، حيث التقى الرئيس فاليري جيسكار ديستان بالرئيس حافظ الأسد. ولكن سرعان ما أصبحت فرنسا عالقة في الحرب الأهلية في لبنان. أرسلت باريس قوات كجزء من القوات المتعددة الجنسيات في النصف الأخير من الحرب. تم تفجير السفارة الفرنسية في بيروت عام 1982، وفي تشرين الأول 1983، فقدت فرنسا 58 مظلياً، وشاركت في غارات جوية انتقامية في سهل البقاع اللبناني. وبحلول شباط 1984، انسحبت فرنسا والولايات المتحدة من لبنان.

 

ميتران يزور ضريح الجندي المجهول

في تشرين الثاني 1984، أصبح الرئيس ميتران أول زعيم فرنسي يزور دمشق منذ استقلال البلاد. سعى ميتران، الذي التقى في وقت سابق الزعيم الليبي معمر القذافي، إلى الضغط على سورية بشأن لبنان ومنظمة التحرير الفلسطينية. ومع ذلك، قال الرئيس حافظ الأسد لميتران خلال مأدبة العشاء: “لا يمكن تحقيق سلام عربي – إسرائيلي طالما أن جزءا من الأراضي العربية محتل، وأن جزءا من شعبنا العربي يتعرض للقمع”، واتهم الغرب بالخلط بين الإرهاب والمقاومة في سبيل التحرر الوطني.

خلال هذه الحقبة، كانت العلاقات بين باريس ودمشق متوترة بالفعل، لكن ميتران حاول أن يقدم أفضل ما لديه بعد رحلته إلى دمشق.

 

فرنسا والرئيس بشار الأسد

اعتُبرت فرنسا أن وصول الرئيس بشار الأسد إلى سدة الرئاسة يمكن أن يشكل فرصة لإعادة التوجه نحو سورية، ورغم ذلك لم تكن العلاقة مع فرنسا في أوائل العقد الأول من هذا القرن دائماً سلسة. فبعد اغتيال رفيق الحريري، عام 2005، عادت العلاقات بين فرنسا وسورية مرة أخرى للتوتر. وخلال ما يسمى “ثورة الأرز”، ساعد شيراك الولايات المتحدة في تنظيم انسحاب سورية من لبنان. ومع اندلاع حرب صيف عام 2006 بين حزب الله و”إسرائيل”، أبلغ شيراك رئيس الوزراء الإسرائيلي في ذلك الوقت، إيهود أولمرت، سراً، أن فرنسا ستدعم غزواً إسرائيلياً لسورية، لأن فرنسا اعتبرت دمشق مسؤولة بشكل أساسي عن تسليح حزب الله. ومع ذلك، بعد عامين فقط، غيرت فرنسا تكتيكاتها مرة أخرى.

في أيلول 2008، كان الرئيس نيكولا ساركوزي أول رئيس غربي يسافر إلى سورية في أعقاب اغتيال الحريري.. ربما على أمل جذب سورية للعودة إلى الساحة الدولية وكسب النفوذ في المنطقة، وبالفعل أعقبت الزيارة سلسلة من المبادرات الدبلوماسية في العلاقات الثنائية، حيث زار الرئيس الأسد باريس في حزيران 2008، للمشاركة في العيد الوطني الفرنسي، أو “يوم الباستيل”.

 

أحداث 2011

تراجعت العلاقات السورية الفرنسية بعد اندلاع الحرب الإرهابية على سورية في عام 2011. وعلى الرغم من احتفاظ سورية بسفارة في باريس، أغلقت فرنسا سفارتها في دمشق في عام 2012، وأصبحت واحدة من أشد المعادين لسياسات الحكومة السورية. سعت فرنسا خلال السنوات الأولى من الحرب إلى تعزيز معارضة ما يسمى “الائتلاف الوطني السوري”، ومنحته مكانة خاصة في باريس، حتى أنها منحت متزعمي “المعارضة” السورية ألقاباً رسمية فرنسية.

كما ذهب السفير الفرنسي السابق إريك شوفالييه مع السفير الأمريكي السابق روبرت فورد لتحريض السلفيين على التظاهر في حماة. ومنذ ذلك الحين، نشطت المخابرات والدبلوماسية الفرنسية في شمال شرق سورية، لا سيما مع الميليشيات الانفصالية المسماة “قسد”.

طوال فترة الحرب، كانت روسيا وفرنسا على خلاف دبلوماسي. ربما يكون نزاعهما حول مستقبل الوضع في سورية أكثر بروزاً في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة؛ فقد حاول الرئيس فرانسوا هولاند الدفع من خلال قرار مجلس الأمن الدولي بإحالة سورية إلى المحكمة الجنائية الدولية في عام 2014، لكن موسكو أعاقته. وفي تشرين الأول 2016، منعت روسيا مشروع قرار في مجلس الأمن الدولي (2/ 2016/ 846) اقترحته فرنسا وإسبانيا لوقف تحرير حلب التي يسيطر عليها الإرهابيون. وبعد عام واحد، استخدمت روسيا حق النقض مرة أخرى ضد مشروع قرار S / 2017 /172)) قدمته فرنسا والولايات المتحدة والمملكة المتحدة لفرض عقوبات على سورية بعلى خلفية مزاعم باستخدام الأسلحة الكيميائية. في أيلول 2018، شنت وزارة الخارجية الفرنسية هجوماً على سورية في معركتها للقضاء على الإرهاب في محافظة إدلب، وحينها قال وزير الخارجية جان إيف لودريان: “لا يمكن استبعاد فرضية جرائم الحرب”، حسب تعبيره!!

 

ماكرون والضربات الجوية

مع وصول إيمانويل ماكرون إلى قصر الإليزيه، حاولت باريس حشد الولايات المتحدة للتعاون في سورية، ولكن مع نتائج مختلطة. وصلت الأمور مع باريس إلى ذروتها مع الادعاء بأن سورية كانت تستخدم أسلحة كيميائية ضد الجماعات المسلحة والمدنيين. لم تشارك فرنسا في الضربة الصاروخية الأمريكية في نيسان 2017؛ ومع ذلك، انضمت لجوقة العدوان على سورية فورا إثر مزاعم الهجمات الكيماوية في نيسان 2018، في دوما. وربما كانت هذه هي المرة الأولى التي تستهدف فيها الحكومة الفرنسية بشكل مباشر الحكومة السورية منذ أيام احتلالها الاستعماري. كانت هذه اللحظة أيضاً علامة نادرة وبارزة على التعاون العسكري بين الولايات المتحدة وفرنسا في الشرق الأوسط، والذي تآكل بشدة خلال حرب العراق عام 2003.

في عام 2018، عقب تصريح للرئيس ترامب بأن الولايات المتحدة ستنسحب قريباً من سورية، سارع ماكرون لعرقلة الانسحاب الأمريكي المحتمل، مشيراً إلى أنه أقنع الرئيس ترامب بضرورة بقاء الولايات المتحدة على المدى الطويل في سورية. وفي تشرين الأول 2019، تعهد ترامب مرة أخرى بالانسحاب وبدأ الانسحاب، لكنه اقتنع بهدوء بعد ذلك بالإبقاء على بعض القوات.

كان لدى فرنسا طموحاتها وأطماعها الخاصة، فقد نفذت غارات جوية لدعم ميليشيات “قسد” الانفصالية في الجزيرة السورية، انطلاقا من قاعدة جوية في الأردن؛ كما أعادت مجموعة صغيرة من أطفال “داعش” من سورية، وقام وزير الخارجية، لودريان، بزيارة إلى العراق لمناقشة عودة ظهور “التنظيم”، ومصير أسراه الفرنسيين في سجون العراق.

لدعمت فرنسا بقوة ميليشيات “قسد” بالأسلحة والتدريب والمعلومات الاستخباراتية، وهناك أيضاً عناصر من القوات الخاصة الفرنسية متواجدة على الأرض داخل سورية. كما كانت فرنسا تضغط بشدة من أجل وقف إطلاق النار برعاية مجلس الأمن بين الأتراك، وما يسمى “قوات سورية الديمقراطية”. ومؤخراً، وتحديداً في شباط 2020، حاول ماكرون إقناع روسيا بالموافقة على وقف إطلاق النار في محافظة إدلب.

 

استنتاج

من الواضح أن فرنسا تهدف إلى إيجاد مكانة لها في الشرق الأوسط وأفريقيا، حيث تعمل باريس على زيادة ميزانيتها العسكرية وتحديث قواتها وتعزيز قدراتها الاستخباراتية. من هنا، من غير المعقول أن تقدم سورية لفرنسا ثماراً سهلة المنال في المستقبل القريب، ناهيك عن الانقسام الفرنسي الألماني حول الدور الأوروبي في منطقة الشرق الأوسط، والانقسام بين أعضاء الاتحاد الأوروبي، وتحديداً أعضاء الناتو، حول ملفات مختلفة مثل سورية وليبيا وطبيعة العلاقات مع وروسيا.

لذلك قد تشهد الانتخابات الرئاسية الفرنسية، في عام 2022، تحولاً جذرياً فيما يتعلق بسورية. وإذا تمكنت منرشة يمينية – على غرار مارين لوبن وحزبها “التجمع الوطني” – من تحقيق الفوز، فيمكن لفرنسا أن تبذل قصارى جهدها لتصعيد النزعة القومية، والسعي إلى تفاهم مع سورية. وحتى لو كان أحد مرشحي يمين الوسط قادراً على الإطاحة بماكرون، فإن مواقف فرنسا يمكن لها أن تتغير، وربما تنفتح بشكل درامي على سورية، ومن المؤكد أن تجدداً اقتصادياً ودبلوماسياً ثنائياً سيتبع ذلك.

وعليه، من المرجح أن تؤدي محاولات الحكومات الفرنسية المستقبلية لإصلاح العلاقات مع سورية إلى نوبات دبلوماسية رفيعة المستوى، لكن: هل سورية على استعداد للتغاضي عن تاريخ فرنسا الثقيل، وتدخلها الدبلوماسي والعسكري على امتداد السنوات الأخيرة في سورية؟