الصفحة الاخيرةصحيفة البعث

خريفان

عبد الكريم النّاعم

قال له: “ها قد بدأت ملامح الخريف”

أجابه: “هذا ما عهدناه من تتابع الفصول”

قال: “أما يزال الخريف يثير الكآبة فيك”؟

أجابه: “ليست الكآبة بالمعنى الدقيق للمفردة، بل يثير حُزْناً شفيفاً يملأ جوانب نفسي”.

قال: “لعله الإحساس باقتراب نهاية الرحلة، وأنّه آن الأوان أن تُغادر الأوراق تلك الشجرة”.

أجابه: “قد يكون شيء من ذلك، بالمناسبة، منذ فترة قرأت أنّ مرضاً شديداً ألمّ برجل ما، أقعده في البيت، فجاء أحد أصدقائه لزيارته، فسأله: “كيف أنت”؟ فقال: “قلِق من الموت”، قال له: “مَن الذي أغدق عليك الحياة، والرزق، وأعطاك ما أعطاك”؟ قال: “الله سبحانه وتعالى”، قال له: “أتخاف من الذهاب إلى الذي لم يأتِك الخير إلاّ منه”؟!

قال له: “حادثة معبّرة بما يكفي العاقل، بعض الناس يرى في الخريف شيئاً من ملامح الربيع”.

أجابه: “لا يخلو هذا القول من حضور خفيّ، وهذا يذكّرني بمدينة الموصل بالعراق التي يسميها البعض أمّ الربيعين، أي ربيع الربيع، وربيع الخريف”

قال: “يلوح لي أنّ ثمّة تقاطعاً بين مراحل حياة الطبيعة ومراحل حياة الإنسان”.

أجابه: “بل قد يكون أكثر من التقاطع، هو توءمَة بطريقة خفيّة قد يصعب تتبّع تفصيلاتها، ولكنّها تحسّ، تماماً ككل الأشياء الجميلة الحاضرة لدرجة الخفاء، والخفيّة لدرجة الحضور، شيء يُشبه الشعر، والجمال، والموسيقا، وكلّ ما هو بديع”.

قال: “لفت انتباهي أنّ بعض النباتات، وبعض الأشجار قد بدأت تفقد حضور أوراقها، فهي تتناثر بالتدريج”.

أجابه: “أولاً ترى أن ذلك يُشبه تناثر أيام العمر في حياة الكائنات الحيّة، ولكنّ الإنسان وحده يدرك ذلك، فالعجماوات لا تدركه، وكذلك النباتات”.

قال: “ربّما كان ذلك أحد أسباب الشقاء لدى الإنسان”.

أجابه: “أنت تسمّيه شقاء، وقد لا يكون ذلك دقيقاً، (فالحكيم)، الذي هو الخالق عزّ وجلّ، في لغة المتألّهين لا يفعل شيئاً عبثاً، وحاشاه من ذلك، والمسألة متعلّقة بمدى تفهّمنا، وتقبّلنا لتلك الغايات، وإدراكها بعمق ما هي عليه”.

قال له: “هل يحدث لك ما يحدث لي من توارد للذكريات، تأتيك دون استدعاء”؟

أجابه: “تلك مسألة طبيعية في حياة النّاس، البعض يستدعي ذكريات ما، يشعر فيها بشيء من الارتياح، أو الحنين الدّافئ، وثمّة ما يأتيك تداعياً دون أن تطلبه، وقد يقتحم عليك البُرهة التي أنت فيها، وقد يُفسدها”.

قاطعه: “فعلاً هذا ما يحدث فكيف يتحكّم بنا شيء لا نستدعيه”؟

أجابه: لا أعرف إجابة قاطعة، ولكنّني مقتنع بأنّ وراء ذلك أمراً ما، هو لصالح الإنسان في الصميم، فالله لا يريد لنا وبنا إلاّ الخير، أمّا الشرّ فهو من أنفسنا”

قاطعه: “ذكّرتَني بمسألة، وهي أنّ بعض الأدباء والفنانين، أو الذين تُجرى معهم مقابلات لما لهم من حضور فاعل، كثيرون حين سُئلوا هل هم نادمون على شيء في حياتهم، وهل لو أتيح لهم أن يستعيدوا هذه الحياة، فماذا يفعلون؟ ومعظمهم يقول إنّه سيكرّر حياته كما مرّت، ولن يسعى لتغيير شيء فيها، فهل تقول مثل هؤلاء فيما لو سُئلت”؟

أجابه: “أرجّح أنّ أصحاب هذه الإجابة هم إمّا سطحيّون، وإمّا متبجّحون، إذ لابدّ أن يكون في حياة الإنسان، باعتباره مشروع (كمال)، لا كاملاً في ذاته،.. لابدّ من وجود هَنات، ونقاط ضعف، وربّما سقطات، ونحن بشر ولسنا ملائكة، الملائكة لا تُخطئ، أمّا نحن فكما قيل “كلّ ابن أنثى خطّاء”، ولو قُدّر لي أن استعيد ما ذكرت لحذفت الكثير ممّا حين يُداهمني أشعر بشيء من الخجل منه، وأتمنى لو لم يكن، وأنْ لا يرد إلى ذاكرتي قطّ”…

aaalnaem@gmail.com