مجلة البعث الأسبوعية

على الأوروبيين مواجهة السياسة الخارجية الأمريكية القديمة – الجديدة

“البعث الأسبوعية” ــ هيفاء علي

عند توليه منصبه، أيد العجوز بايدن نقلة نوعية في السياسة الأمريكية. وبعد الانعطافات والتجربة وارتكاب الأخطاء التي ميزت العقدين الماضيين، يواصل الفريق الجديد الانتقال الذي بدأه سلفه ترامب ويعمل على ترسيخه: الهيمنة على القرن الحادي والعشرين بدون أي غموض في المواجهة مع الصين.

 

الصين.. ثم الصين.. ثم الصين

في ظل إدارة أوباما، تم تحديد الصين وروسيا على أنهما القوتان اللتان تحاولان “تحدي عناصر معينة من النظام العالمي الذي تهيمن عليه الولايات المتحدة”. في السياق، سلطت وثائق رئاسة ترامب الإستراتيجية القومية المؤقتة، والتي أقرها فريق بايدن الجديد، الضوء بشكل أساسي على الصين “المنافس الوحيد القادر على الجمع بين أنشطته الاقتصادية والدبلوماسية والعسكرية وقوته التكنولوجية لتشكيل تحدٍ دائم لنظام دولي مستقر ومنفتح”. لذلك ليس من المستغرب أن يتم حث الحلف الأطلسي على التكيف مع هذا الأمر بأسرع وقت ممكن. وبالفعل، تم ذلك في قمة لندن 2019، مع إشارة أولى إلى أن الصين تقدم “فرصا وتحديات يجب أن يستجيب لها الحلف”.

وفي مؤتمر ميونيخ، في شباط 2021، حدد الأمين العام لحلف الناتو الصين رسميا في قائمة التحديات، وأومأ الحلفاء الأوروبيون برأسهم، ولكنهم قلقون بشأن مصداقية الضمانات الأمريكية: لقد مضى وقت طويل منذ أن تخلت الولايات المتحدة عن العقيدة التي كانت تتصور خوض حربين في نفس الوقت. وقد أكد ذلك مؤخرا الرئيس الديمقراطي للجنة القوات المسلحة بالكونغرس: “يجب أن نعترف بأننا لا نستطيع الهيمنة في كل مكان، لا سيما في النزاعات المتزامنة”. لكن الجميع يأخذ بجدية هذا التحذير من ستيفن إم والت: “لإنقاذ الناتو، يجب أن يصبح الأوروبيون أعداء الصين”، إلى رئيس الجمعية البرلمانية لحلف الناتو، النائب الديمقراطي جيرالد كونولي، الذي يقول الشيء نفسه بطريقة أكثر أناقة: “يجب على الحلفاء مضاعفة جهودهم لمواجهة التحدي [المتمثل في القوة الصاعدة للصين إذا كانوا يريدون من التحالف الحفاظ على أهميته”.

 

فزاعة روسيا

تعمل الوثائق الإستراتيجية الأمريكية على تسويق فكرة أن الصين هي “المنافس الاستراتيجي” الرئيسي، أما روسيا فهي “المُخِلّة” بالأمن، والتي “تزعزع الاستقرار”.. الشيء الرئيسي بالنسبة للولايات المتحدة هو سياسة احتواء الصين والاستفادة من الرافعة الأوروبية الضرورية لتحقيق هذا الهدف. فكلما زاد الأمريكيون من تخويف الأوربيين من التهديد الروسي، كلما سهل عليهم تجنيد الأوروبيين في هذه “الإستراتيجية الكبرى”. إذ يمكن لواشنطن أن تؤمن ولاء حلفائها الأوروبيين المنقسمين بطريقتين: إما كحامية موثوقة لأولئك الأكثر ميلا للتقارب مع روسيا، أو بجعل التعاون بين موسكو والحلفاء الغربيين مستحيلا، مثل تعاونها مع باريس أو برلين أو روما.

ومن هنا جاءت مواجهة إدارة العجوز بايدن للتحركات الروسية على الحدود الأوكرانية، في نيسان 2021، من جهة، وضغطها المقترن بالتهديدات كرد على خط أنابيب نورد ستريم 2 الروسي الألماني من جهة أخرى. ورغم كل هذه التهديدات، فقد تم تشغيل هذا الخط مؤخرا. وفي كلتا الحالتين، يتعلق الأمر بضمان أن “التضامن الاستراتيجي في الناتو يحظى بالأولوية على الاستقلال الاستراتيجي الأوروبي”، على حد تعبير ينس ستولتنبرغ، الأمين العام للحلف.

الجزء الثالث من اللغز هو الوصول الأمريكي إلى سياسة الاتحاد الأوربي الدفاعية، حيث حصل الفريق الجديد على مشاركته في مشروع “التنقل العسكري”، وهو جزء من مجموعة مبادرات تهدف، من حيث المبدأ، إلى تعزيز الاستقلالية الأوروبية. وكما قال مستشار البنتاغون السابق روبرت د. كابلان، فإن “الناتو والدفاع الأوروبي المستدام ذاتيا لا يمكن أن يزدهرا كلاهما. أحدهما فقط يمكنه ذلك، ومصلحتنا أنه حلف الناتو، وهكذا ستكون أوروبا مصدر قوة لنا، وليست عائقا لنا عندما نواجه الصين”. على حد تعبيره.

 

تفكك أوروبا

بالنسبة للمراقبين الخارجيين، فإن تشخيص الوضع واضح: بدلا من التركيز على الصين أو روسيا واعتبارهما “عدوتين” لأوروبا، بناء على أوامر واشنطن، يجب التركيز على الهجرة الجماعية لأنها هي التي تشكل التحدي الدائم للقارة العجوز على مدى العقود القادمة، مع التغيرات الديموغرافية والقضايا الثقافية التي تنطوي عليها. وها هو الدبلوماسي الجامعي السنغافوري كيشور محبوباني يصفها بوضوح شديد في كتابه الأخير، الذي حمل عنوان “هل فازت الصين؟”.

ووفقا له: بسبب “جغرافية أوروبا البائسة”، فإن احتمال تعرضها للغزو من قبل ملايين المهاجرين الذين يصلون في قوارب صغيرة أمر معقول للغاية. وإذا لم تتحسن الظروف السياسية والاقتصادية بسرعة في القارة الأفريقية، يمكن لأوروبا أن تتوقع أن يطرق أبوابها مئات الملايين من الأفارقة”. وبالنظر إلى حجم الخطر وتعقيده، سيحتاج الأوروبيون إلى جميع الحلفاء المحتملين.

وفي حربها العالمية المزعومة ضد الإرهاب، تواصل الولايات المتحدة دورها كحليف مهم على الصعيدين العملي والاستخباراتي. ومع ذلك، فإن الأوروبيين في وضع ديموغرافي وجغرافي مختلف تماما، ويمكن التأكيد أنهم يتعرضون للتهديد من قبل بعض الهجمات الدموية، ولكن هذا التهديد المتوقع لن يطال تماسكهم الاجتماعي، وثقافتهم، ووجودهم. لذلك لن يركزوا جل طاقتهم على شيء آخر، أي الصين، ولكن بمجرد أن يهتموا بالأبعاد الأخرى للتحدي، فقد تجد واشنطن نفسها في معارضة إيديولوجية.

تماما مثلما فعل أوباما الذي مد يده في خطابه الشهير، في القاهرة عام 2009، إلى العالم الإسلامي من خلال تشويه سمعة فرنسا دون تسميتها: “من المهم أن تتجنب الدول الغربية منع المسلمين من ممارسة دينهم كما يحلو لهم. على سبيل المثال، من خلال إملاء ما يجب أن ترتديه المرأة المسلمة. ولا يمكن إخفاء العداء للدين تحت ستار الليبرالية”. في المقابل، كما قال أوباما، “تستخدم حكومة الولايات المتحدة المحاكم لحماية حق النساء والفتيات في ارتداء الحجاب ومعاقبة من يتحداهن”. وبسبب سوء الفهم الكامل في أمريكا لمفهوم العلمانية الذي اختصرته إلى الحرية الدينية وحدها، سيبقى الرئيس بايدن وحاشيته على هذا الخط، إن لم يكن أكثر.

لمواجهة التحدي المزدوج المتمثل في الهجرة الجماعية والإسلام السياسي، سيكون لأوروبا حليفان طبيعيان آخران: الصين وروسيا. ويمكن أن تكون بكين شريكا مفيدا بشكل خاص لتحقيق الاستقرار والتنمية في أفريقيا. وبالنسبة لموسكو، يلاحظ جان بيير شيفنمان، الممثل الخاص للرئيس ماكرون في روسيا: “لدينا في الأساس نفس الخصوم، نفس المخاوف من النظام الدولي. فروسيا دولة كبيرة وعظيمة جدا، تضم مائة جنسية، وعشرون مليون مسلم. وروسيا عانت كثيرا من الإرهاب.. لذلك، لا يزال لدينا بعض المصالح المشتركة مع روسيا”، إلا إذا طالبت واشنطن بتحالف لا تشوبه شائبة من حلفائها في سياستها تجاه هذين البلدين. ويشير تقرير حديث صادر عن خدمة الأبحاث في الكونغرس الأمريكي: “يشكو المسؤولون الأوروبيون بانتظام من أن الولايات المتحدة تتوقع دعما تلقائيا منهم”. في الواقع، عندما يستمع الأوروبيون إلى الرئيس بايدن وهو يقول إن أمريكا “تقود العالم” مرة أخرى، و”تنضم إلى الحلف”، فإنهم يعلمون أنه سيُطلب منهم الانضمام إلى أقوى حليف لهم. في كلتا الحالتين، بغض النظر عن الإدارة الأمريكية، رد فعل الأوروبيين هو نفسه، ويتلخص في “احترامهم المفرط للولايات المتحدة”، وفق ما حدده مستشار سابق في وزارة الخارجية والمدير البريطاني السابق لوكالة الدفاع الأوروبية. ففي عهد دونالد ترامب، تم تقديم التنازلات بدافع الخوف؛ ولدرء مزاج الرئيس الأمريكي غريب الأطوار، جو بايدن، وجد الأوربيون أنفسهم مرغمين على تقديم الشكر والامتنان له لحسن معاملته لهم”.

انعدام التكافؤ الأساسي للعلاقة لا يتغير. فمنذ سنوات خلت، انتقد الجنرال دوغول واشنطن لاستبدالها التشاور البسيط بالقرار المشترك، ومنذ ذلك الحين، حتى الاستشارات باتت نادرة. فقد واجه الحلفاء أمرا واقعا بقرار جو بايدن الانسحاب من أفغانستان (حتى عندما كان الجنود الأمريكيون يقدمون ربع قوة القوة الدولية فقط). وشاهدوا بدهشة احتجاجات إدارة بايدن التي وصفت، في غضون أيام قليلة، فلاديمير بوتين بـ “القاتل”، والصين بـارتكاب “الإبادة الجماعية” في مواجهة الأويغور، وأنها “أكبر تهديد للاستقرار الدولي”. ومن باب الخوف من تعرض الشراكة مع أمريكا للخطر، استسلم الأوروبيون لها بكل سرور.

حضر وزير الخارجية أنطوني بلينكين مجلس الشؤون الخارجية، في نهاية شباط 2021، عن طريق بالفيديو، وتقرر حينئذ تنفيذ عقوبات جديدة ضد روسيا. وبعد شهر، فرض الاتحاد الأوروبي أولى العقوبات منذ 30 عاما على الصين بالتنيسق مع واشنطن كعقوبة على ما تزعمه “معاملة الأويغور”. كل ذلك تحت التهديد المستمر بالانتقام الأمريكي من الشركات الأوروبية، وذلك بفضل نظام العقوبات المتجاوز للحدود الإقليمية. وهنا يتساءل احد المحللين الأوربيين: ألم يحذر وزير الدفاع الألماني، عشية الانتخابات الأمريكية، من أن “أوهام الاستقلال الاستراتيجي يجب أن تنتهي”؟ لقد سارع القادة الأوروبيون الآخرون للانضمام إليها، وتبقى باريس، كما هو الحال دائما، هي الوحيدة التي تكرر: الاستقلال الاستراتيجي شرط لا غنى عنه لـ “القدرة على أن نزن أنفسنا، وأن لا نصبح تابعين لهذه القوة أو تلك. لم يعد لدينا أي كلمة نقولها”.

كان السفير الصيني في بروكسل قد سخر من التخلي عن رفع حظر الأسلحة عن الصين بسبب “الخضوع المثير للشفقة” للأوروبيين “غير القادرين على اتخاذ قراراتهم دون أن يتأثروا بقوى أخرى”. اليوم، يحذرهم مستشار الأمن القومي الأمريكي السابق هربرت ماكماستر: “إما أن ينحازون إلى واشنطن ضد الصين، أو يختارون “العبودية” في بكين. الرؤيتان تكملان وتعززان بعضهما البعض. وهاتان الرؤيتان تؤكدان الملاحظة التي أبداها الرئيس الفرنسي: “ما لم يفترضوا بشكل كامل طموحهم للاستقلال، فسوف يتعين على الأوروبيين الاختيار بين سيطرتين”، في عالم “منظم حول قطبين رئيسيين: الولايات المتحدة الأمريكية والصين”.