مجلة البعث الأسبوعية

منظومات الأدوية تركز على أرباح الشركات وليس على الحاجة العلاجية صناعة الأدوية.. الإنفاق على التسويق يتجاوز بكثير الإنفاق على البحوث

“البعث الأسبوعية” ــ عناية ناصر

تقوم صناعة الأدوية بحملات جادة من أجل براءات اختراع أقوى في جميع أنحاء العالم، لكن حتى خبراء الاقتصاد التقليديون ينتقدون بشدة براءات الاختراع في الطب، ففي بعض الحالات، تُباع الأدوية الحاصلة على براءات اختراع بآلاف المرات أكبر من تكلفتها. ويقول ريتشارد هورتون، في مجلة “ذا لانسينت”، إن “تاريخ الطب مليء بالنتائج المبكرة التي يتضح وبعد فترة من الزمن أنها ليست رائعة جداً، بل إنها في الواقع سلبية. وهناك سلسلة كاملة من الأمثلة الحديثة، إذ أدت البيانات الأولية إلى الكثير من الإثارة وتسببت في تغييرات في الممارسة السريرية لندرك في النهاية أنها تسببت في ضرر أكبر من نفعها. فلماذا لا نتعلم هذه الدروس أبداً؟”.

 

البحث في المشكلات الخاطئة

ركزت معظم أبحاث الأدوية على مشاكل العالم الغني. وتقول منظمة “أطباء بلا حدود “إن 21 دواء فقط، من أصل 1556، تم طرحها في السوق العالمية من 1975 إلى 2004، كانت تهدف إلى مكافحة الأمراض “المهملة”، أي الأمراض التي توجد في الغالب في البلدان الفقيرة. وتقضي شركات الأدوية وقتاً أطول في البحث عن عقاقير مثل الفياغرا، بدلاً من السل، لأن هذا هو المكان الذي تتحقق فيه الأرباح، رغم أنه يمكن معالجة العديد من المشكلات الصحية الرئيسية في البلدان الفقيرة بتكلفة منخفضة نسبياً. وقد بدأت “منظمة الصحة العالمية”، في عام 2006، في معالجة هذه المشكلة، لكن التمويل الحالي لا يزال غير كافٍ.

 

التكلفة الاجتماعية.. الأرباح الخاصة

غالباً ما يتم تمويل المراحل الأولى من البحث والتطوير في مجال الأدوية علناً، حيث تدفع الجامعات والحكومات في جميع أنحاء العالم الكثير من التكاليف. ولا تشارك الشركات، غالباً، إلا بعد التأكد من أن الاختبارات المبكرة واعدة. وكما أشار أحد المعلقين فإن النظام البيئي بأكمله الذي يتم فيه الابتكار (براءات الاختراع، وحقوق النشر، والتمويل، والجامعات، والبحث، ونقل المعرفة، وقواعد الملكية، والتنظيم لضمان المعايير المشتركة) يتم إنشاؤه بشكل مشترك بين العام والخاص.

ومع ذلك، فإن الشركات التي تحصل على براءات الاختراع تحتفظ بالأرباح، فبمجرد حصولها على براءة اختراع لعقار ما يمكن للشركات أن تتقاضى كل ما يزيد من أرباحها. وبعبارة أخرى، كل ما يستطيع الأغنياء دفعه. وفي حالة شديدة التطرف، كلف عقار يسمى Cerezyme أكثر من 200 ألف دولار للعلاج لمدة عام على الرغم من أن كل التطوير تقريباً قد تم تمويله علناً. وهكذا ينتهي الأمر بأنظمة الرعاية الصحية في البلدان الغنية بتقنين الأدوية بسبب تكلفتها.

وفي ظل هذه الظروف، لا معنى للسماح للشركات الخاصة بالاحتفاظ بكل أرباح الأدوية المسجلة.. إنها طريقة أخرى يتم فيها تزوير الاقتصاد بأكمله لتحويل الثروة الهائلة إلى أيدي المديرين التنفيذيين والمساهمين في الشركات الكبرى.

 

حرمان الدول الفقيرة

كي يفيد دواء ما ملايين الأشخاص في البلدان الفقيرة، لا بد من توفيره بأرخص سعر ممكن. لكن شركات الأدوية الكبرى التي لديها براءات اختراع لهذه الأدوية تريد التحكم في توفير هذه الأدوية وفرض أعلى الأسعار.

وتقوم منظمة التجارة العالمية بفرض براءات الاختراع من خلال اتفاقية حقوق الملكية الفكرية، وهي تسمح للدول الفقيرة بعمل نسخ رخيصة من الأدوية المهمة، وكانت هناك بعض الأحكام القانونية المهمة في بعض البلدان مثل الهند لتحقيق ذلك. وعلى الرغم من ذلك، لا تزال شركات الأدوية تمنع الوصول إلى الأدوية في جميع أنحاء العالم، ما يضطر معظم الدول الفقيرة إلى الخضوع لارتفاع الأسعار بسبب تهديدات الولايات المتحدة وبريطانيا ودول متقدمة أخرى.

حاول زعيم جنوب إفريقيا، نيلسون مانديلا، الحصول على عقاقير منخفضة التكلفة لعلاج الإيدز، فالشركات الغربية تتقاضى 15 ألف دولار في السنة، في حين إن الشركة الهندية يمكن أن تصنع نفس الأدوية مقابل 300 دولار، لكن مانديلا تعرض للتهديد بالعقوبات بعد أن ضغطت شركات الأدوية على الحكومة الأمريكية، ومات الملايين من الناس في أفريقيا لأنهم لم يتمكنوا من تحمل تكاليف الأدوية باهظة الثمن.

“القضية الحقيقية للشركات متعددة الجنسيات (شركات الأدوية) ليست أسواق الدول الفقيرة، والتي هي صغيرة من الناحية المالية، ولكن كيف سيتم إقناع الآلاف من الناس في البلدان الغنية، وخاصة الولايات المتحدة، بتقبل الموت من السرطان وأمراض أخرى لأنهم لا يستطيعون دفع عشرات الآلاف من الدولارات سنوياً يتطلبها جيل جديد من العلاجات إذا تمكنت الشركات الهندية من تصنيع وبيع الأدوية نفسها بجزء بسيط من السعر؟

 

كثير من الأدوية مبالغ بأثمانها

إن نسبة كبيرة من الأدوية الجديدة ليست أكثر فاعلية من الأدوية الموجودة، فقد أجرى المعهد الوطني الأمريكي للصحة دراسة، نشرت في عام 2002، لمعرفة ما إذا كانت أدوية الضغط المرتفع الموجودة حالياً فعالة. كانت بعض الأدوية بين أكثر الأدوية مبيعاً في العالم، ووجدت الدراسة أن مدرات البول القديمة تعمل بشكل جيد أو أفضل من أي شيء آخر. وتبلغ تكلفة مدرات البول 37 دولاراً سنوياً، بينما تكلف الأدوية الأخرى التي تم اختبارها 230 – 715 دولاراً سنوياً، لكن المفارقة أن الأطباء كانوا يصفون في الغالب الأدوية الأكثر تكلفة.

تم إنفاق مبالغ ضخمة من المال على أدوية السكري، مثل أفانديا، التي تبين أنها غير فعالة. وعندما تم تقديمها، لأول مرة، تم الترويج لها في البداية على أنها منقذة للحياة. كان عقار الإنفلونزا، تاميفلو، ذا قيمة قليلة، لكن تم شراء مخزونات ضخمة ضد إنفلونزا H1N1 في عام 2009، بسبب بيانات بحث مضللة وضغوط الشركات، فقد حجبت الشركة المصنعة، روش، البيانات لتضليل الجميع، وهذا ما يجب اعتباره جريمة خطيرة، وهو غير قانوني في الواقع.

 

الانفاق على التسويق أكثر من الإنفاق على البحث

إذا كان الدواء فعالاً حقاً، فإنه لا يحتاج إلى تسويق، فالدراسات العلمية الصحيحة ستظهر فوائده، وسيستخدمه الأطباء وشبكات الرعاية الصحية في جميع أنحاء العالم. ومع ذلك، ونظراً لأن معظم الأدوية ليست فعالة جداً، تحتاج الشركات إلى إنفاق مبالغ ضخمة لـ “إقناع” الأطباء بهذه الأدوية. وهذا يشمل الهدايا والعطلات والإغراءات الأخرى (والتي هي صورة من الرشاوى). والمؤسف أن العديد من الأطباء يقبلون هذا الأمر. وفي المجمل، يتم إنفاق المزيد على التسويق أكثر من البحث، ويتم دفع ثمن هذا التسويق في النهاية من قبل الذين يشترون الأدوية، ما يجعلها أكثر تكلفة؛ والمشكلة أن العديد من الأدوية الجديدة أدوية مقلدة يتم إنفاق مبالغ طائلة على تسويقها ولكن لن يفتقدها أحد إن لم تكن موجودة.

 

الغش والخداع

تعد صناعة الأدوية من أكثر الصناعات فساداً في العالم، حيث تمت إدانة معظم شركات الأدوية الكبرى ببيع أدوية ضارة، وأحيانًا مميتة. وقد تم فرض غرامات على هذه الصناعة بأكثر من 50 مليار دولار خلال العشرين عاماً الماضية.

فقد تم تغريم شركة ” كلاكو سميث كلاين”، في عام 2021، بمبلغ 3 مليارات دولار في الولايات المتحدة بسبب أدوية تتضمن مخدرات، وللاحتيال والرشوة ودفع الإغراءات الباذخة للأطباء للتستر على أدلة البحث السلبية، ولتقديم ادعاءات كاذبة عن الأدوية؛ كما تم تغريم الشركة نفسها أيضاً في الهند وجنوب أفريقيا والمملكة المتحدة. وعلى الرغم من أن هذه الأرقام تبدو كبيرة إلا أنها ليست كافية لردع الشركات عن الاستمرار في ارتكاب هذه الجرائم، إذ يمكن لمبيعات عقار واحد أن تعادل أضعاف هذه المبالغ. وبقدر ما يتعلق الأمر بالشركات، فإنه لا تتم مقاضاة أي فرد على جرائم جنائية وذلك لنقص التشريعات.

في عام 1997، تم تغريم بعض شركات الأدوية بسبب تشغيلها كارتلاً عالمياً لتحديد الأسعار. وقد ذهب أحد المؤلفين إلى حد القول إن التعريف الرسمي للجريمة المنظمة ينطبق على أنشطة شركات الأدوية.

ولصناعة الأدوية تاريخ طويل في المبالغة في الفوائد، والتقليل من الجوانب السلبية، وإخفاء النتائج السلبية، فقد أظهرت دراسة حديثة أن الأدوية، تميل، فعلياً، إلى أن تكون 4 مرات أكثر ضرراً مما يدعي المصنعون، إذ تصل الآثار الجانبية إلى ربع مليون شخص في المملكة المتحدة، و2 مليون في الولايات المتحدة كل عام.

كان هناك 55 ألف حالة وفاة بسبب عقار “فيوكس إكس” لتخفيف الآلام، ولكن تم حجب البيانات من قبل الشركة المصنعة “ميرك”. كما تسببت أدوية السكري، أفانديا، في حدوث عدد كبير من النوبات القلبية والسكتات الدماغية والوفيات. ويعلق أحد الخبراء قائلاً: “إلى أن تصبح العقوبات الأكثر جدوى، واحتمال عقوبة سجن رؤساء الشركات المسؤولين عن هذا النشاط أمراً واقعاً، ستستمر الشركات في الاحتيال على الحكومة وتعريض حياة المرضى للخطر”.

لقد وجدت العديد من الدراسات أنه عندما تدفع الشركات فاتورة كبيرة، من المرجح أن تدفع الأبحاث إلى دعم نتائج الأدوية الجديدة. وبعبارة أخرى، يوجد الآن دليل دامغ على أن شركات الأدوية تتلاعب بالبحوث.

وتختبر الشركات الأدوية الخاصة بها، لذلك تم تصميم الاختبار بذكاء للتأكيد على الفوائد وتقليل الأضرار، ولا يتم نشر التجارب السلبية دائماً، ويمكن لمصنعي الأدوية الإفلات من هذا بسبب عدم كفاية التنظيم.

 

الضوابط التنظيمية

تنفق صناعة الأدوية أكثر من أي صناعة أخرى على الضغط على حكومة الولايات المتحدة، حيث أنفقت 280 مليون دولار في عام 2018. والغرض من ذلك ضمان وجود القليل جداً من اللوائح التنظيمية لهذه الصناعة. والمنظم الأمريكي يسمى “إدارة الغذاء والدواء” التي تعاني من نقص التمويل، وليس لديها تحليل مستمر وطويل الأمد للسلامة، كما أنها تعاني تضارباً خطيراً في المصالح، مع وجود العديد من الموظفين المرتبطين بالصناعة. وقد ذهب رئيس “إدارة الغذاء والدواء” السابق للعمل في شركة الأدوية، بفايزر. كما يشغل العديد من الأعضاء السابقين في الكونغرس الأمريكي وظائف كجماعات ضغط في صناعة الأدوية.

والمثير للدهشة أن الوضع التنظيمي في بريطانيا أسوأ، إذ لم تنجح الجهة المنظمة في المملكة المتحدة (MHRA) في مقاضاة شركة واحدة، وبلغ مجموع الغرامات التي فرضتها 73300 جنيه إسترليني فقط، وتفاخر هذه الجهة بإعطائها 467 تنبيهاً و151 تحذيراً في عام 2012. ولكن لم يكن لها أي تأثير. ولا يتم إنفاذ القوانين واللوائح، وتضارب المصالح موجود في جميع جوانب نظام الموافقة على الأدوية بالكامل.

 

لا تفي بالغرض

معظم الناس في بريطانيا، والبلدان الأخرى التي لديها شيء مشابه لخدمة الصحة الوطنية، لا يدركون مدى ما تفعله صناعة الأدوية، لأنهم ليسوا مضطرين لدفع ثمن الأدوية بأنفسهم، فنادراً ما تناقش وسائل الإعلام التكاليف الإضافية التي تتكبدها الخدمة الصحية بسبب استفادة الشركات. وينصب تركيز نظام الأدوية على أرباح الشركات، وليس على الحاجة الطبية، وصناعة الأدوية هي مثال صارخ على صناعة “غير مناسبة للغرض”. إنها تخذل معظم الناس في كل من البلدان الغنية والفقيرة. ويقول أحد الخبراء البارزين، بن جولداكر، إن “الدواء معطل”، ويمكن أن يوفر النظام الذي يتم تشغيله على المستوى الوطني نفس الأدوية مقابل جزء بسيط من السعر. ولن يكون هناك عقاقير مقلدة، ولا تسويق باهظ الثمن، ولا ضغط، ولا معارك قانونية على براءات الاختراع، ولا حرمان للبلدان الفقيرة من الأدوية. ويمكن لنظام دولي مناسب أن يركز على الأدوية المطلوبة في البلدان الفقيرة ويجعلها متاحة على نطاق واسع قدر الإمكان وبأقل سعر ممكن. وإذا أردنا مواجهة الفقر العالمي، يتعين علينا تخصيص موارد كبيرة لهذه الأمراض حيث لن يكون هناك ربح يذكر.

لم تكن الدعاية المتعلقة بالمستحضرات الصيدلانية ناجحة تماماً، بسبب النقاشات الإعلامية حول الحاجة إلى الأدوية الرخيصة في الدول الفقيرة. ومع ذلك، فإن الدعاية حول براءات اختراع الأدوية في البلدان الغنية كانت ناجحة للغاية. ونادراً ما تتحدى وسائل الإعلام السائدة نظام براءات الاختراع، أو تناقش حجم الاحتيال الذي يحدث في صناعة الأدوية، أو تكشف أنه يمكن البحث عن الأدوية وإنتاجها بتكلفة أقل بكثير من خلال وسائل أخرى. إن إمكانية وجود صناعة أدوية تديرها الحكومة أمر لا تتم مناقشته أبداً.