تحقيقاتصحيفة البعث

“الدعم” يلتهم الموازنة العامة للدولة.. خبراء يتحدثون عن سيناريوهات إصلاحه وإيصاله إلى مستحقيه

حسن النابلسي

سرعان ما صُدِمَ من واجهناهم بعبارة “إن قيمة الدعم تلتهم الموازنة العامة للدولة”، لترتسم على محياهم علامات الاستهجان والاستغراب، متسائلين: إن كان الأمر كذلك، لما لا يصلنا إلا النذر اليسير منه.. هذا إن وصل بالفعل..؟.

هذا المشهد المختصر شكلاً، والعميق مضموناً، يلخص أن ما تقدمه الدولة من دعم شامل تصل قيمته لحوالى 5 آلاف مليار ليرة من أصل 8 آلاف مليار من الموازنة العامة –وفق تأكيدات الباحث الاقتصادي إيهاب اسمندر، بات يرهق خزينتها العامة، دون أي يحقق الأهداف الاقتصادية والاجتماعية له، سواء لجهة تقليل معدلات الفقر، أم لجهة تحسين الوضع المعيشي وغيرها من الأهداف ذات الصلة.

صيغة ولكن..!.

في الوقت الذي نؤكد فيه إيلاء الدولة اهتماماً خاصاً بالدعم الاجتماعي، تجدر الإشارة إلى أن صيغة هذا الدعم لم تخرج عن “دعم الاستهلاك”، وبالتالي من الطبيعي ألا يحقق مبتغاه، لأن دعم الاستهلاك يفيد من يستهلك أكثر، وهذا بالعرف الاقتصادي هو عادة المقتدرين وليس ذوي الدخول المتدنية، وهنا يبين اسمندر لـ”البعث” أن إجراءات الدعم غير واضحة حالياً، بدليل أن استهلاك معظم المواد المدعومة ولاسيما المحروقات والتي تكلف الحكومة مبالغ طائلة متباين حسب الحالة المادية للسكان، مشيراً إلى أن استهلاك الفرد في العشر الأغنى من السكان “أي ما نسبة 10%”،  يصل إلى 50 ضعف استهلاك الفرد في العشر الأفقر، وبالتالي في حال رفع الدعم عن المحروقات، فإن الأغنياء هم من سيتحملون تكلفة هذا الارتفاع لصالح إصلاح المالية العامة للدولة وإعادة توزيع الدعم بما يتناسب مع ذوي الدخل المحدود، وأصحاب الإنتاج الحقيقي مما يؤدي بالضرورة لتحسين مستوى معيشتهم.

للأرقام لغتها..!.

ارتأى الخبير الاقتصادي الدكتور علي محمد أن لغة الأرقام خير من تشخص واقع الدعم، مستعرضاً خلال حديثه لـ”البعث” قيمة الدعم الاجتماعي من الموازنة العامة للدولة لعام 2020، والذي كان 373 مليار ليرة (0.86 مليار دولار) بحسب سعر الصرف الرسمي عند إقرار الموازنة حينها، أما دعم 2021 فقد بلغ 3500 مليار ليرة (2.79 مليار دولار) بحسب سعر الصرف الرسمي عند إقرار الموازنة حينها، موزعة على دعم الدقيق التمويني والمشتقات النفطية والصندوق الوطني للمعونة الاجتماعية وصندوق دعم الإنتاج الزراعي، من دون أن يشمل ذلك الدعم المقدم للقطاع الكهربائي.

وبناء عليه طرح محمد سيناريو إلغاء الدعم، وتحويل اعتماداته لبند الرواتب والأجور، موضحاً أن قيمة الدعم الاجتماعي تبلغ نحو 13173 ليرة شهرياً للمواطن (باعتبار عدد سكان سورية بحسب المكتب المركزي للإحصاء 22.14 مليون نسمة). ويبلغ عدد الموظفين 1.8 مليون موظف بحسب تصريح لوزير المالية الأسبق د. مأمون حمدان بتاريخ 04/02/2018، وعلى فرض أن كل موظف يعيل 3 أشخاص غيره، يعني أن الإعالة لحدود 7.2 مليون مواطن، وبالتالي إذا تم إلغاء الدعم وتم تحويله إلى بند الرواتب والأجور، فهذا يعني زيادة راتب كل موظف بنحو 162037 ليرة شهرياً تقريباً (دون الأخذ بالاعتبار التسلسل الإداري وتوزع الفئات)، يعني 40509 ليرة لكل شخص (باعتبار الموظف يعيل نفسه و 3 آخرين)، وبالطبع هي أعلى بـ 3 أضعاف من حصة الفرد من الدعم فيما إذا بقي على النحو السائد.

إشكالية

أضاف محمد أن تحويل الدعم لزيادة في الرواتب أمر أفضل، كونه يوزع بشكل جيد لجزء من مستحقيه الذين يرزحون الآن في فقر وعوز وهم الموظفين، إلا أن هناك من يقول بأن نحو 15 مليون سوري لا يعيلهم أحد، بل يعملون بالقطاع الخاص أو على حسابهم أو في ورش الخ.. فكيف ستحقق الحكومة مبدأ المساواة بينهم وبين قطاع الموظفين، وهنا تكمن الإشكالية بحسب محمد..!

هنا شدد اسمندر على أن هذا الأمر يتطلب برنامج دعم علمي وموضوعي يدار بطريقة تخصصية من قبل جهة مسؤولة عنه، مشيراً إلى أنه عندما تحدد الحكومة سعر البنزين المدعوم بـ750 ليرة سورية لسيارات الأجرة “التكسي”، يتم تعاطي السائقين مع الركاب لجهة تحصيل التعرفة بناء على سعر هذه المادة في السوق السوداء، أو سعرها في محطات الأوكتان البالغ 3000 ليرة، يضاف إلى ذلك وجود بعض التعقيدات ولاسيما تلك المتعلقة بحساب قيم مدخلات بعض المواد المدعومة، فربطة الخبز –على سبيل المثال- مدعومة كمنتج نهائي بسعر 200 ليرة سورية، ولكن في نفس الوقت مدخلات ومستلزمات إنتاجها من دقيق وكهرباء ومازوت هي بالأساس مدعومة أيضاً، وبالتالي من الصعوبة معرفة قيمة الدعم الحقيقي للخبز..!.

لابد من الأثر الإيجابي

لكن –والكلام لمحمد- لابد من أن يبقى أثر الدعم الحكومي جلياً لاسيما في ظل ازدياد نسبة الفقر، ولتحقيق الغاية الأساسية من جوهر الدعم الحكومي، فهو في النهاية يهدف لدعم المتعثرين مالياً وذوي الدخول المنخفضة فهو إمدادات مادية تقدم من قبل الحكومة لتخفيض أسعار السلع، إما لصالح صناعة وإما لصالح المواطن، وتتفاوت نسب الدعم المقدم حسب المنطقة، ففي الدول العربية يشكل الدعم بحسب بعض الإحصائيات نحو5.7% من الناتج المحلي الإجمالي، وهي نسبة تفوق بكثير المعدل الموجود في بقية الدول النامية والذي يبلغ نحو 1.3% فقط.

توافق

توافق الدكتور زكوان قريط  مع محمد، لدى تأكيد الأخير أن مشكلة الدعم في سورية هو التطبيق الخاطئ له واستمراره سنوات طويلة دون تعديل أو استهداف دقيق للفئة المستحقة للدعم، ليبين قريط لـ”البعث” أن التجارب السابقة لسياسة توزيع الدعم حملت في طياتها الكثير من الأخطاء والسلبيات والثغرات لم يتم حلها، داعياً إلى توزيع الدعم ومخصصاته المالية بشكل غير مباشر بحيث يكون شاملاً للاقتصاد الوطني ككل من خلال استثمار الكتلة النقدية الهائلة للدعم في دعم الزراعة التي هي عماد الاقتصاد السوري، وبالتالي إحداث أثر إيجابي على القطاعات الصناعية والتجارية والسياحية لاحقاً، ما يحقق بالنتيجة الأمن الغذائي والحد من الاستيراد وخاصة للمنتجات والمحاصيل الزراعية، وأضاف قريط أنه إلى جانب إعادة هيكلة الدعم لابد من الاستفادة من تجارب الدول الأخرى، فليس المهم الدعم النقدي بحد ذاته، بل أن ينعكس إيجاباً على الوضع الاقتصادي والمعيشي للمواطنين عامة الفقير قبل الغني.

ليعود ويؤكد محمد أنه ليس من المنادين برفع الدعم عن الفقراء، كون أن هذا الأمر يزيد من عوزهم وفقرهم، مشيراً في ذات السياق إلى أن تنظيم الدعم كان مطلوباً منذ ما قبل الحرب، ولا يجوز أن يحصل الغني والفقير على نفس الدعم المقدم من الحكومة نتيجة غياب معايير دقيقة لاستهداف الطبقات الاجتماعية ناهيكم عن غياب الدراسات الاقتصادية والإحصائية الفعلية والقيمة.

وأضاء محمد على حيثية مفهوم (تكلفة الفرصة البديلة)، موضحاً أنه عندما تقدم لي منتج رخيص، تصبح تكلفة الفرصة البديلة مرتفعة، مما يسبب زيادة الطلب على هذا المنتج لانخفاض سعره وعدم الاهتمام بهدره كونه غير مؤثر، وهذا ما نلاحظه في مادة الخبز مثلا، تشترى وتهدر أو تحول علفاً للحيوانات رغم مقدار الدعم المقدم  له، وكذلك الكهرباء، فانخفاض أسعار استهلاك الكهرباء يؤثر بلا شك على هدرها (طبعا نتكلم عن فترات الرخاء لا الحرب) مما يجعل استجرار الطاقة مبالغ فيه علماً أنه يمكن الاقتصاد فيه لولا أن تكلفة الفرصة مرتفعة جراء انخفاض سعر الكيلو واط الساعي، رغم المبالغ المهولة المدفوعة كدعم للكهرباء ولقطاع المشتقات النفطية المغذية لمحطات التحويل، والأمر نفسه ينطبق على باقي المواد المدعومة.

وفيما يتعلق بتحويل الدعم كمبالغ نقدية عبر البطاقات الالكترونية البالغة 3.7 مليون بطاقة، بين محمد أنه أمر قابل للتطبيق أيضا شريطة الأخذ بالاعتبار كافة التأثيرات المحتملة لرفع الدعم على معيشة المواطن، بدءاً من تكلفة مواصلاته إلى طعامه وشرابه وتدفئته.. الخ