دراساتصحيفة البعث

تسونامي جيو سياسي أقدم

إعداد: هيفاء علي

يتطوّر الوضع في الشرق الأوسط بسرعة عالية، وسيكون له تداعيات كبيرة في المستقبل القريب، سواء بالنسبة لشعوبه أو بالنسبة للشعوب الغربية، حتى لو كانت وسائل الإعلام الغربية السائدة والمهيمنة لا تغطيه بأهمية كبيرة أو تغطيه على طريقتها الخاصة. ذلك أن الانسحاب الرسمي للجيش الأمريكي من أفغانستان هو مجرد بداية لـ”إعادة تشكيل الشرق الأوسط”، ولكن ليس على الإطلاق كما تصورها قتلة أفغانستان. لقد كانت الإدارة الأمريكية في ذلك الوقت تضحك على انهيار الاتحاد السوفييتي السابق والإعلان عن “نهاية التاريخ” مع وضع نفسها كنموذج منتصر لا يمكن تجاوزه!.

في الحروب غير المتكافئة التي تتكشف في العالم منذ عدة عقود بين كل القوة التكنولوجية التي تعتقد أنها لا تقهر في مواجهة المقاومة المحلية التي يرسمها الصحفيون الغربيون في أحسن الأحوال على أنهم “برابرة” ولكن في أغلب الأحيان “إرهابيون”، فإن هؤلاء الصحفيين هم أنفسهم الذين ما زالوا يتساءلون ما الذي أفلت من علمهم الكلي ليؤدي إلى مثل هذه الأخطاء بما في ذلك فلسطين المحتلة منذ عقود من قبل المشروع الاستعماري الصهيوني المدعوم من أوروبا، والذي يتعاون مع نظام أصبحت إيحاءاته من الفصل العنصري غير قابلة للتنفس حتى أعلى مستويات الإدارة الأمريكية التي بدأت تجد نفسها مرهقة وهي تحاول الحفاظ على مشروع يتحول في النهاية ضدها، لأنها تمجّد في كل مكان فضائل “ديمقراطيتها”. وحتى الدول الأوروبية التي تكون دائماً في المقدمة، عندما يتعلق الأمر بالمشاريع الاستعمارية، هي الأخرى ستدفع الثمن أيضاً على تواطئها في الجرائم المرتكبة ضد شعب تمّ تصنيفه بأصابع انتقامية على أنه “إرهابي” في هذا الانقلاب على قيمهم.

هكذا فقد العالم “الغربي”، الفخور بقدرته المطلقة، في غضون سنوات قليلة، ثقة وصداقة العديد من شعوب المنطقة لمصلحة الشرق الذي لن يبقى فارغاً وفقاً لما يعلمه التاريخ للأوروبيين. الحروب الاستعمارية المتلطية تحت ستار الديمقراطية والحرية وحقوق الإنسان أحدثت فوضى عارمة ودمرت مجتمعات بأكملها وسبّبت الآلام والمعاناة لشعوب المنطقة بعدما نهبت خيراتها وثرواتها.

لذلك فإن شعوب الدول الغربية، الذين خدعوا بالقرارات الإجرامية لحكوماتهم التي تكذب عليهم مطولاً، لا يعرفون ولم يعودوا يعرفون ماذا يعني العيش في أوقات الحرب، فهم يرون بعض الصور على التلفزيون أو على الإنترنت، لكنهم لا يدركون ما يعنيه حقاً أن يعيش المرء على وقع الحرب وفي يوميات الحرب. هم يعيشون حياتهم، مستغرقين في المتاعب المعتادة لنهايات الشهر الصعبة على خلفية أزمة صحية غامضة، وهم مقتنعون الآن بأن ذروة حريتهم تكمن في رمز الاستجابة السريعة للاستمرار في الخروج والاستهلاك “كما كان من قبل”، دون معرفة أي شيء، ولا يفهمون معنى الحياة اليومية لملايين العائلات المحاصرة التي تتعرض للكدمات والدمار بسبب سياسات الغرب المفترسة.

سينتهي في يوم من الأيام الزيف المتعلق بوباء كورونا الذي اجتاح العالم، وسيتولى حدث آخر زمام الأمور وسيتصدّر عناوين الأخبار، حيث يخفي فن إخفاء الحقائق طواعية المشكلات الرئيسية لمصلحة المحيط العاطفي، ومعرفة التأثير جيداً. إن “إعادة الضبط الكبرى” التي نقلها البعض لسكان العالم الذين انخفض عددهم هي مجرد خدعة يتمّ تشتيتهم من خلالها، ويتغذون على مخاوف غير منطقية لأن هناك رغبة بالتحكم في عدد سكان العالم. كما أن عملية “إعادة الضبط الكبرى” هي ذات طبيعة مختلفة تماماً تتعلق بنهاية الهيمنة الغربية الساحقة على بقية العالم من خلال القيود التي تمارسها الدول الناشئة، والتي أصبحت ضرورية لإعادة توزيع الأوراق لمصلحة عدد كبير من المواطنين، وليس لمصلحة حفنة من الأثرياء. عندما ينمو الغضب الشعبي هنا وهناك، يحدث في المخاض عدد قليل من مظاهر التمرد في مواجهة التفاوتات بين الأكثر ثراءً وغير المستقر الذي يتكاثر. ورغم ذلك، لا تزال حكومات معظم الدول الغربية تتمتع بهذه الروح الاستعمارية، حيث تعتمد على القوة للاستيلاء على ثروات الآخرين، وتتجاهل “الأضرار الجانبية” التي تسبّبها مغامراتهم القاتلة.

مقابل ذلك، نظم معارضو الدول الغربية الاستعمارية القاتلة أنفسهم بأقل الموارد وبصبر طويل في كل مكان، لمقاومة القوة الغربية المفرطة التي دمّرت أنظمتها الاجتماعية التي اكتسبتها من خلال النضالات الطويلة التي خاضتها الأجيال السابقة لتمويل مغامراتها الشبيهة بالحرب.

وهكذا، فإن ما يُسمّى بالجيش الذي لا يُقهر، والذي يعتمد عليه النظام الاستعماري الإسرائيلي، لم يعد يجرؤ على قصف المواقع التي كانت تميّز خصومه في السابق بقدرته المطلقة القاتلة. فقد غدا هذا شيئاً من الماضي، ويتلقى الآن مع كل محاولة ردّ فعل لاذعاً مماثلاً من غزة أو لبنان أو سورية.

وبحسب مراقبين، لن تكون أفغانستان هي الأرض الأخيرة التي تتخلى عنها الولايات المتحدة وحلفاؤها التابعون لها. وسيتبع ذلك انسحابها من العراق وسورية وليبيا، وكذلك اليمن حيث تلحق المقاومة خسائر فادحة بالتحالف المشكوك فيه مع وجود عسكري لقوى أجنبية أخرى، بما في ذلك الولايات المتحدة و”إسرائيل” والعديد من الدول الأوروبية. كلّ من يراقب ما يحدث في الشرق الأوسط يدرك أن مفعول الدواء المسكن قد انعكس.