ثقافةصحيفة البعث

مقاهي المثقفين.. بدأت بعروض الحكواتي وانتهت بالأصبوحات الأدبية

كانت المقاهي تشكّل المكان الرئيسي لتجمع الرجال، وقد تنوعت في أحجامها، من الأماكن المتواضعة إلى القاعات الفخمة التي تحتوي على نافورات تضخ الماء في وسطها، وانتشرت في جميع أحياء المدينة، فعندما تتوقف الأعمال وتكون الشوارع قد خلت، كانت المقاهي تبرز بكونها الأمكنة الوحيدة للحياة الليلية المنظمة، بزبائنها الذين كان معظمهم من الطبقة المتوسطة فما دون، كانوا يأتون بحثاً عن الصحبة والراحة والانتعاش والتسلية.

عندما كنت صغيراً ولم أتجاوز الثامنة من العمر، كانت تجذبني مقهى (كردوش) التي تقع أمام زقاق البقر في مدينة حلب، في الشارع المؤدي إلى جامع قارلق، وكان ذلك في ليالي رمضان، بعد مدفع الإفطار، فأكون قد وجدت قطعة حجر أجلس عليها مقرفصاً بانتظار الحكواتي، وبعد أن يأتي تراه وقد تربع فوق الكرسي الكبير المرتفع، ثم يبدأ بنقلنا إلى عوالم البطولات والفروسية، حيث يقدم حكايات عنترة والزير سالم، أو سيرة بني هلال، وكان لا يبدأ إلا عندما تكون صالة المقهى قد امتلأت بالزبائن. لقد اعتبره مؤرّخ المسرح في حلب محمد هلال دملخي ممثلاً يجلس على كرسي من القش، مرتفع وبين يديه كتاب قديم لسيرة أو حكاية، ويتحلق حوله مستمعون، إنه يقرأ في السيرة الشعبية بأداء متميز في فن الإلقاء، وغالباً ما يكون بين الفصحى والعامية، إنه يستحوذ على عقول المستمعين بأسلوب خطابي تمثيلي مشوّق في قراءة النص الذي بين يديه.

يتحول المقهى إلى مسرح حقيقي حين يستغرق الحكواتي في رواية حكايته، وينقسم الحضور إلى قسمين “أنصار وخصوم” فهؤلاء مع عنترة، وهؤلاء مع عمارة، وكلّ يجلس في ركن، وكثيراً ما كان يحدث الشجار بينهم بسبب انفعالهم وبسبب لهجة الحكواتي المؤثرة، وقد تصل حدّ التشابك بالأيدي والسيوف والتروس من غير ضرر أو أذى، وأحياناً يرتدون ملابس خاصة وكأنهم ممثلون حقيقيون على المسرح. قد يتوقف الحكواتي عند موقف مشوق، كأن يدع عنترة في الأسر، ثم يغلق كتابه ويمضي إلى البيت، فيلحق به أنصار عنترة، ويوقظونه في منتصف الليل ليخرج لهم بطل السيرة من السجن، لأنهم لم يستطيعوا النوم هذه الليلة دون أن يعلموا بمصير عنترة.

لقد توفي آخر حكواتي في حلب عام 1981 وكان يُدعى محمد حموي، المعروف بـ(أبو الحن) وكان يقدم حكاياته في عدة مقاهٍ، وربما ينتقل في الليلة الواحدة إلى أكثر من مقهى.

وعمدت المقاهي إلى استخدام مسرح كراكوز وعيواظ أي ما يُسمّى بخيال الظل، وذلك ضمن مشاريعها الربحية، ويتمّ التمثيل بها بواسطة ألعاب خشبية تتحرك مع أعضائها بواسطة خيوط تشدّ من أسفل منصة التمثيل، ويصحب الحركات حوار يلقيه الرجل الذي يحرك الدمى وفق ما يتطلبه المشهد، ويبدأ عيواظ الحوار بقوله: “أهلاً وسهلاً وميت السلامة بأخي كراكوز، ابن الحلال عند ذكره ببان”، ويتمّ التمثيل على ستارة من القماش الأبيض الخفيف الذي تنعكس عليه من الخلف صور أشخاص مصنوعة من الورق المقوى، أو من جلد الجمل لأنه متين ويقاوم الزمن، وكل شخص مؤلف من عدة قطع منفصلة ترتبط فيما بينها بواسطة مسمار صغير ليتمكن اللاعب من تحريكها واللعب بها، ويوجد خلف تلك الشخوص رفٌ من الخشب يوضع عليه سراج من الفخار، يضاء بزيت الزيتون، ويقف الشخص خلف الستارة ويمسك العصي بيديه ويحركها وفق ما يقتضيه المشهد، ويلوَن صوته تبعاً لتغيير الشخصيات التي تتحرك خلف القماش، فتارة يبكي وطوراً يضحك وثالثة يغني، حتى تنتهي المسرحية، ويرافق الخليلاتي ثلاثة عازفين، وهم: عازف العود وعازف الناي وضارب الدربكة، ويبدأ كل “بابه” كما كانوا يسمونها، بضربتين على العود، معلنين فتح الستار والسكوت، وكانت تقام العروض مساء وتزداد في فصل الشتاء، ويجلس المشاهدون على كراسي صغيرة من الخشب والقش لا مسند لها، أو على حصير يمدها صاحب المقهى على الأرض، ويدفع الرواد مبلغاً من المال أجر ما شاهدوه، وتشير المعلومات إلى أن خيال الظل ورد إلى البلاد العربية من الشرق الأقصى في أواخر القرن التاسع عشر، وموطنه الأصلي هو الهند، وإن آخر خليلاتي توفي عام 1973.

على ذلك فقد قدمت المقاهي إلى زبائنها ورق الشدة والطاولة والشطرنج والبرجيس والمنقلة والأراكيل والمذياع والتلفزيون بالإضافة إلى المشروبات الساخنة والباردة، كل ذلك كي لا يهرب الزبائن منها، ويلاحظ أن مالكي أو مستأجري المقاهي كانوا من الوجهاء والأعيان الذين رغبوا في زيادة أرباحهم من دخول هذه الأماكن، وقد جذب حي اليهود في حلب الشبان الذين كانوا يريدون التمتّع بالحياة الصاخبة واقتناص المتعة حيث يقضون السهرة مع أصدقائهم بصحبة الفتيات المغنيات والراقصات اليهوديات. وهناك بعض المقاهي التي كان يغني على تخوتها المغنون والمغنيات، ولاسيما من مصر، مثل: ألمظ وعبده الحامولي. كما قدمت المقاهي الثقافية الشعراء والقاصين والذين يقومون بنقدهم، ففي منتصف سبعينيات القرن الماضي تداعى أربعة شعراء من فلسطين، وهم: نظيم أبو حسان وعادل أديب آغا وعصام ترشحاني ومحمود علي السعيد، وكلهم من ترشيحا، إلى الجلوس في مقهى السلطان الذي يقع في شارع بارون، يرافقهم مجموعة من المثقفين، يبكون على وطن ضائع، ويأملون بالرجوع إليه، وكانوا يسجلون ذلك شعراً يتداولونه فيما بينهم، ثم طبعوا هذا الشعر في دواوين وزعوها على الناس، كانوا صامتين حدّ القهر، ثم بيع المقهى إلى رجل آخر من بيت الشبلي، فعمل منه محلاً لبيع الألبسة الجاهزة، وأمامهم وعلى بعد خطوات كان مقهى القصر الذي كان يضم نخبة من المثقفين، ثم مات صاحبه، فباعه الورثة إلى بائع أحذية الذي باعه بدوره إلى بنك الأردن وسورية، وانتقلت جماعة المثقفين إلى مقهى الموعد ثم الشايخانة ثم مقهى جحا، واستمروا فيه إلى أن دمر بكامله، خلال فترة الحرب، مع الفندق السياحي الذي كان يضمّ في صالته النخبة الأرقى من المثقفين، وأثناء فترة الحرب هذه، كان هناك مقهى صغير، في طلعة السريان، يدعى “أثر الفراشة” وقد وضع داخل المحل مجموعة من الكتب للذين يرغبون في القراءة، كذلك دعت السيدة رياض نداف إلى تجمع ثقافي أسبوعي، ماعدا شهر رمضان، في مقهى ريو، وقد دعا بشير دحدوح إلى تجمع آخر في مقهى الشباب، وهو يضم بعض المثقفين الذين يكتبون الشعر والقصة، وهؤلاء يلقون الشعر والقصة وهناك نقاد يقوَمونه لهم. هذا هو وضع المقاهي في حلب، بما فيها مقاهي الثقافة.

المراجع:

ـمحمد هلال دملخي- مسرح حلب في مئة عام- دمشق 2001 .

حلب- هاينتز غاوبه، ترجمة: صخر علبي- وزارة الثقافة 2007.

الشرق الأوسط عشية الحداثة- أبراهام ماركوس- ترجمة: أيمن سيد درويش.شعاع للنشر- حلب 2009

فيصل خرتش