ثقافةصحيفة البعث

تشومسكي.. أفكار ومثل

يعد الفيلسوف نعوم تشومسكي من الشخصيات الفكرية الرائدة في العصر الحديث وأحد مؤسسي مجال العلوم المعرفية، حيث وصف سياساته الخاصة بشكلٍ واسعٍ على أنّها فوضوية وراقية واشتراكية تحررية، كان منتقداً غير معتذر للسياسة الخارجية الأمريكية من العقود القليلة الماضية.

كتاب “تشومسكي.. أفكار ومثل”، للكاتب نل سميث، ترجمة معن الصالح، مراجعة د.علي اللحام، ضمن المشروع الوطني للترجمة منشورات وزارة الثقافة- الهيئة العامة السورية للكتاب، يجيب عن سؤال كان بين طيات صفحاته “لماذا يعد تشومسكي مهماً؟”، فيجيب سميث بأن تشومسكي استطاع أن يظهر أن هناك لغة إنسانية واحدة فقط، وأن التعقيد الهائل للغات المتعددة هي عبارة عن روايات مختلفة تدور حول موضوع واحد، أحدث ثورة في علم اللغويات وبذلك أثار غضب الفلاسفة فأعاد إحياء نظرية الأفكار الفطرية وقدم أدلة على أن معرفة اللاوعي هي التي تكمن وراء قدرتنا على الكلام والفهم، وقلب الطاولة على المدرسة السلوكية في علم النفس، باختصار غيّر الطريقة التي نفكر بها.

مرآة العقل

على الرغم من تعقيد وتنوع أنظمة الاتصال بين الكائنات الحية، إلا أنه لا يوجد مخلوق آخر لديه لغة مثل التي يملكها البشر، وعلى الرغم من أن امتلاك اللغة ليس شرطاً أساسياً لوجود العقل، فاللغة هي أفضل دليل قاطع على طبيعة العقل وهي الأداة التي تحدد ما يكون بشراً ودراسة اللغة هي وسيلة لدراسة الإنسان.

يقدم الكاتب تفصيلاً للأساس اللغوي عند تشومسكي، ويهدف من خلاله إعطاء القارئ بعض الفهم عن النظرية الحالية عبر إظهار الكيفية التي وصلنا بها إلى ما وصلنا إليه. وقدّم المؤلف جزءاً كبيراً من إنجاز تشومسكي فهو قد فتح لغة للبحث، ومن خلال القيام بذلك فقد صنع مرآة للعقل البشري وذلك عبر البراهين القاطعة على أن معرفتنا باللغة يمكن دراستها عن طريق البحث العلمي العادي كجزء من العالم الطبيعي، الأمر الذي دفع تشومسكي ليضم علم اللغويات إلى الحركة العلمية.

معضلة أفلاطون

يقول تشومسكي “إننا نأمل أن نتعرف على بعض الخصائص المميزة لذكاء الإنسان من خلال دراسة خصائص اللغات الطبيعية”، إذ تستمد أبحاث تشومسكي قوتها من علاقة اللغة بالقضايا الفلسفية وعلم النفس التي تأتي من قوة أساسها اللغوي، والإدراك بأنه صاغ مجموعة من المشاكل الوصفية والتوضيحية وحلها في الدراسة الرسمية للغة يضمن أن يؤخذ أفكاره الأخرى على محمل الجد.

في هذا الفصل وضع المؤلف مناقشة لحل تشومسكي المحتمل لـ”معضلة أفلاطون”، ممثلاً في الكيفية التي يستطيع بها الأطفال اكتساب لغتهم الأولى على أسس من أدلّة ومرتكزات محدودة جداً، لا شك أن اكتشاف كيف أصبحت عقولنا بالشكل الذي هي عليه الآن هو أمر في غاية الصعوبة؛ إلا أن هناك الكثير من الأدلة بخصوص كيفية عمل عقولنا وأدمغتنا الآن، إن هذه الافتراضات البسيطة التي دافع عنها تشومسكي وأتباعه ما يقرب من خمسين عاماً من العمل الدؤوب تجعل من الممكن تقديم تفسيرات تستند إلى المبادئ ليس فقط للنماذج اللغوية الصرفة، ولكن أيضاً للنتائج في ثلاثة مجالات رئيسة للبحث النفسي تتمثل في: معالجة اللغة، اكتساب اللغة، فضلاً عن الأمراض المرتبطة باللغة.

الفلسفة الواقعية

الخيط الأول في تفكير تشومسكي هو الالتزام بالواقعية، وفي هذا الفصل يعرج المؤلف على الأوجه الفلسفية لأفكار تشومسكي، حيث يستنتج أنه كان لأعماله اللسانية ومرتكزاتها الفلسفية تأثير عظيم على الفلسفة، فقد عمل من خلال موقف ثابت ومتكامل على الجمع بين الواقعية والنزعة العقلانية والنفسية، وقد طوّر نظرية اللغة الداخلية الجذرية التي كانت بمثابة أساس لتحدي العديد من الآراء. واستطاع تشومسكي أن يقوض التفكير التقليدي حول علاقة اللغة بالعالم والمجتمع والفرد، ودعم مفهومه لقواعد اللغة من خلال التحليل التقني الهائل والموضوعات في المجالات المتنوعة مثل النقاش الخاص باللغة والشك الديكارتي والتمييز التحليلي وتوحيد العلم وبصفة خاصة مسألة الفطرة والعقلانية.

اللغة والحرية

يُفرد الفصل الأخير من الكتاب للآراء السياسية، حيث يصف الكاتب عمل تشومسكي في جميع المجالات على أنه رفض لا هوادة فيه لإتباع القطيع، إن معارضته الشديدة ليست مجرد رفض عنيد إنما تستند للدلائل المتمثلة بالإبداع العلمي كما في حالة علومه اللغوية للسانيات، والتمرد الإنساني في حالة علومه السياسية، ومركزية التفسير في كليهما، ارتبط عمل تشومسكي العلمي بنشاطه السياسي من خلال التزامه بالعقلانية ورفضه اتخاذ الأشياء في ظاهرها.

في الختام هذا المقال هو تقديم بسيط للكتاب الصادر عن وزارة الثقافة، والذي كُتب على غلافه بأن المؤلف هو فقط “نل سميث” مع العلم أنه بجولة بسيطة على محرك البحث جوجل نجد أن هناك مؤلف ثان لم يذكر اسمه هو “نيكولاس آلوت”، بالإضافة إلى أن القارئ حتماً سيضيع في متاهات الفهرس الغير منسق ابداً، فالفصول غير مقسمة بشكل صحيح ولا العناوين كانت صحيحة، وبعض الضياع كان هو العنوان الأكبر. ليس المطلوب من المترجم أن يأتي بإبداع جديد بعيد عن المؤلف، المطلوب فقط أن ينقل بأمانة وموضوعية أكبر.

عُلا أحمد