دراساتصحيفة البعث

على حافة الانتحار

محمد نادر العمري

 

ليس بالخبر المفاجئ حينما يتوارد على وسائل الإعلام الأمريكي إقدام ضابط أو جندي على الانتحار، أو مجرد محاولته القيام بذلك، حيث تعتبر حالة من مثل هذه الحالات شبه بيروقراطية داخل المؤسسة العسكرية الأمريكية منذ خروج الولايات المتحدة الأمريكية من عزلتها ومشاركتها الفعلية في الحرب العالمية الثانية من خلال ما عرف بإنزال النورمندي الذي شكّل بداية تغيير موازين القوى لصالح الحلفاء ضد تحالف النازية والفاشية في تلك الآونة.

وبالعودة لصلب الموضوع فإن اللافت في قضية انتحار الجنود الأمريكيين في هذا التوقيت عاملان: أولهما المتمثّل في ارتفاع نسبة إقدام الجنود على البحث عن طرق الموت، وثانيهما التوقيت الذي تزامن مع الخروج المذل للولايات المتحدة الأمريكية من أفغانستان، خاصة بعد تبني الولايات المتحدة الأمريكية بعد غزو العراق 2003 لبرنامج تأهيل بدأ العمل به عام 2008، من شأنه معالجة الحالات النفسية للجنود الأمريكيين ومنعهم من الوصول لمرحلة الانتحار، وهو ما أشار إليه بيان وزارة الدفاع الأمريكية في عام 2020 بالقول: “لقد حققنا بالتعاون مع عائلات الجنود نتائج مذهلة للحد من ظاهرة الانتحار”، لتعود الوزارة ذاتها في بيان صحفي معاكس تتحدث فيه، بعد اكتمال الانسحاب الأمريكي من أفغانستان، بأن لديها استنتاجات مقلقة، فمعدلات الانتحار بين صفوف العسكريين مرتفعة، وهناك تحذيرات أكثر لارتفاع المعدلات لنسبة تتراوح من 40% إلى 60% بعد الانسحاب، وهو الوضع الذي نقدته مجلة “فورين بوليسي” بالقول: “إن المؤشرات المتوافرة حول ارتفاع معدلات الانتحار داخل القوات الأمريكية لا تدل على أن القائمين على الجيش الأمريكي يسيرون في الاتجاه الصحيح”.

تراكم هذه التخوفات جاء بعد الذي أفصحت عنه وزارة الدفاع الأمريكية بأن عدد جنود الجيش الذين انتحروا منذ بداية عام 2021 بلغ 580، من بينهم 384 من الجنود العاملين، وأوضح تقرير الوزارة بأن من بين المنتحرين 175 ينتمون إلى القوات البرية، و81 من القوات الجوية، و66 من القوات البحرية، فيما انتحر 62 فرداً من سلاح مشاة البحرية، و196 فرداً من مقاتلي الحرس الوطني والاحتياط.

وكان من أبرز وآخر الجنود الذي اختار واقع الانتحار، وفق قناة  سي بي سي نيوز  الأمريكية، المجند “ج. غرين” الذي يبلغ من العمر 24 عاماً، وهو من ولاية كاليفورنيا الأمريكية، كان من بين ثلاثة جنود انتحروا مؤخراً في يوم واحد بتاريخ  17 أيلول الماضي، وكان غرين قد عاد من أفغانستان في 6 أيلول، (أي قبل 11 يوماً من انتحاره)، وشارك في المساعدة بإجلاء الأمريكيين من أفغانستان بعد سقوط كابول في أيدي حركة طالبان.

وبالرغم من تعدد التقارير الصادرة عن الجهات الرسمية وغير الرسمية حول أسباب انتحار الجنود، ومحاولة ربطها من قبل البعض بالفترة الطويلة التي يقضيها الجندي في ساحات القتال، أو بمشاكل شخصية مع الزملاء والمرؤوسين، أو بسبب صعوبات مادية، يبقى الاحتمال الأكثر ترجيحاً في كفة الميزان هو حجم مظاهر الموت التي تتكرّس في عقول هؤلاء، لكن الحقيقة تكمن في مقلب آخر، فالسبب الرئيسي لمعدلات الانتحار بين صفوف الجنود الأمريكيين يعود إلى زج الولايات المتحدة الأمريكية بحروب خارجية لتحقيق مصالح نخبتها التي تعلو مصالحها ومعتقداتها على مصالح الشعب الأمريكي، وفقدان العقيدة التي يقاتل بها هؤلاء، وهو ما أدى بصحيفة “نيويورك تايمز” في تقرير لها عام 2018 للتساؤل عن سبب إقدام هؤلاء الجنود على الانتحار وهم يقاتلون بأفضل الأسلحة ولخدمة أقوى دولة، في حين نجد من هم في الحلف المعادي لأمريكا يقاتلون بالأحجار كي يعيشوا- في مقارنة بين الجندي الأمريكي والمقاوم الفلسطيني- لتعود الصحيفة لتؤكد في تقريرها أن السبب يتبلور في العقيدة، فهؤلاء الجنود مرغمون على القتال وهم يدفعون دماءهم لكي تنتصر المؤسسات الكبرى العابرة للقارات، وتحقق المليارات من صفقات بيع الأسلحة.