مجلة البعث الأسبوعية

الشاعر أورخان ميسر.. كان يريدها سريالية عربية

البعث الأسبوعية- فيصل خرتش

في أواخر نيسان من عام 1965، عقد مؤتمر طبي عالمي حول مرض السرطان، في كلية الطب بجامعة دمشق، وفي إحدى المحاضرات دخلت الأديبة كوليت خوري القاعة، وتوقف المحاضر، وصاحت: كفوا عن هذه المناقشات، وتعالوا لننقذ شاعراً يعاني من عذابات هذا المرض، واختار المجتمعون عشرة أطباء رافقوا الأديبة كوليت إلى منزل أورخان ميسر في شارع الروضة، وبعد الاطلاع على الصور والأدوية والتحاليل، قالوا جميعاَ: “لقد فات الأوان يا سيدتي” عندئذ ابتسم المريض ووقف بصعوبة، صافح الجميع، وقبَل يد كوليت شاكراً لها ما فعلت، وبعد يومين تمَ تشييع الشاعر إلى مقبرة الدحداح في دمشق، وقد رثاه الشاعر سعد صائب بقصيدة، بينما خلع سعيد الجزائري نظارتيه وحطمهما على طريقة بطل الساعة الخامسة والعشرون، وهو يردد لرفيقه: “ما من شيء بعد اليوم يستحق أن أراه”.

ولد أورخان ميسر ابن شكيب عام1914 وتلقى تعليمه في مدينة حلب- سورية، حتى المرحلة الثانوية ثم التحق بالجامعة الأميركية في بيروت لدراسة الطب، وفشل في دراسته، فتحول إلى دراسة العلوم والفيزياء، ونال فيها درجة الماجستير، ثم عاد إلى حلب ليدير أملاك أبيه الواسعة، ففشل أيضاً، وقرر أن يسكن في دمشق، فاشترى منزلاَ في شارع الروضة وسكن فيه، وعرف بمواقفه القومية وحماسه للدفاع عن حق الأمة في فلسطين، فقد ذكر أنه كان يشتري البنادق من جيبه الخاص ويوزعها على المدافعين عنها في ذلك الوقت، سجن مع أخيه في سجن القلعة في دمشق بعد اغتيال عدنان المالكي، وفي مطلع الستينيات من القرن الماضي عيَن مديراً للعلاقات العامة في وزارة الإعلام السورية، كما عمل في السفارة الهندية في دمشق، وكان بيته بمثابة صالون أدبي يقصده الأدباء والشعراء، ويجتمع فيه الزوار من المثقفين العرب.

أصدر أورخان ميسر عن اتحاد الكتاب العرب ثماني عشرة صفحة من كتاب “سريال وقصائد أخرى” مع الشاعر الدكتور علي الناصر عام 1948 ووضع له مقدمة وخاتمة، وربما كان هذا الكتاب من أكثر التجارب  الرائدة في الشعر الحديث، وذو أفق إبداعي. ترك أورخان كتاب “مع قوافل الفكر” صدر عن اتحاد الكتاب العرب عام 1974. وكتاب “شوقي وعصره” وله في الترجمة كتاب “التنمية القومية” لديفيد كوشمان، وكتاب “الرقص في أمريكا” وهذا الكتاب.

قال جمال باروت عنه: ” إن كتاب (سريال) من أكبر التجارب الشعرية طليعية في النصف الأول من القرن الماضي، فلأول مرة أثبت إمكانية أن نقول الشعر بمعزل عن الأدوات التقليدية القائمة.. إنه دعوة لقلب نظام القيم الشعرية الثابتة والبحث عن قيم شعرية متحولة”.

إنه كتاب يهدي إلى أفق جديد، ذو أفق نظري، وبالتأكيد إن هذين الأفقين كانا مترابطين عضوياً (فالتحرر من الشكل الخارجي لا بد أن يرافقه تحرر من الشكل الداخلي، والتحرر من الشكل الخارجي يعني بالنسبة لأورخان ميسر، قصيدة النثر). لقد أفاد من كل البحوث والنظريات التي تتعلق بالسريالية، التي تكوّن منهجه الشعري، قال عنه أدونيس: “أصف نتاج أورخان ميسر بأنه مشروع تحرر حياتي، وليست تجلياته الفنية إلا جزءاً يكمل تجلياته الثقافية في الفكر والممارسة، بل إن من خبر الحياة التي عاشها الشاعر، وتفحصها عن كثب، يمكن أن يقول: “إن الجانب الفني في حياته لم يكن الأغنى والأكثر إفصاحاً، فقد كان شاعر حياة أكثر منه شاعر أدب”.

إنتاجه يندرج في المقدمات النظرية الطليعية لهذه الثورة في الممارسة الشعرية العربية، إننا ننتقل من صور جديدة للإنسان العربي إلى صورة للشعر العربي، أي من انقلاب في فهم الإنسان إلى انقلاب في فهم الكتابة، إنها تحرر من الماضي الراهن في الحاضر، وعلى صعيد التعبير (من شعر اللغة وشعر العروض، وفي هذا كلَه كان الإنسان: الفرد، المعذب، المحاصر، المسحوق، المكبوت، مدارها الأساسي).

يقول أورخان ميسر في مقدمة كتابه: “لقد وجد بعض الفنانين والشعراء والموسيقيين والرسامين، أن الطريقة التي كانوا يطبعون فيها إنتاجهم الفني تنحصر في تحول حالات وجدانية وفكرية، تكاد تكون عادية في مادتها الأساسية وخطوطها الجوهرية، وإن للذهن أثراً ظاهراً فيها يدنيها من النتاج العلمي والفلسفي، فعمدوا إلى محاولة جريئة أرادوا فيها أن يتم تسجيل ما يرد إلى مخيلتهم من صور إبداعية، كما هي تماماً، بصرف النظر عن جمال الصورة أو قبحها، وعن مطابقتها للمقاييس الاجتماعية أو تنافرها معها.

يقول في قصيدة بعنوان: “الأصداء”

بقايـــا آهات وقهقات

ارقصي أيتها الشعلة

وليعج فضاؤك بالأخيلة المرتعشة

إن الزمان، اللحظة، في غفوة

ارقصي.. ارقصي

ارقصي قبل أن تهزأ يقظة الزمان

من حلمك الهزيــــل

إن أورخان ميسر يصنف سرياليته، بما يلي: “هذه الخطوط الغامضة المبهمة هي التي تكون مادة الإنتاج الفني الصحيح في الشعر والرسم والموسيقا”.

ويعرفها بقوله: “إنها ما يرسمه العقل الباطن باصطلاحاته الخاصة من صور يمثل بها واقعه الفردي ممزوجاً بحنين الأجيال التي تحيا فيه”، ويفسر ذلك “بأن العقل الباطن يمثل خزاناً كبيراً من الغرائز المشتركة بين أفراد الجنس البشري عبر الأجيال المتتابعة، والسريالية، هي: أن تتفرد إحدى هذه المحاولات بتمثيل حالة إنسانية عامة تنبثق من الفرد وكأنه كل ما مرَ وكل ما سيأتي من أجيال، ويصنف العقل الباطن هذه الحالة كما هي تماماً إلى دائرة الشعور فيسجلها الفرد كما هي أيضاً، وهذه هي السريالية”.

وهكذا يؤكد أورخان ميسر على ارتباط السريالية بالحالة الإنسانية العامة وبعمليات الواقع الاجتماعي، كما يؤكد على اتصال السريالية بالحياة في أشكالها المتنوعة ومراحلها المختلفة، ففيها نرى: مثلنا العليا، ورغباتنا الجليلة، وآمالنا الحلوة، وطموحنا بما فيه من استثارة وتفريع، ونرى نضالنا وكرامتنا الفردية والاجتماعية.

بهذه الصلات التي بينها أورخان يتجلى افتراق سرياليته عن سريالية أندريه بروتون، ففي الجانب الإبداعي يرفض مبدأ الكتابة العفوية ويحذر من الاعتقاد بوهم أن في وسع أي فرد آخر أن يصنع إنتاجاً سريالياً، ويؤكد على أن الصورة تولد في الأعماق نتيجة تفاعل أقصى المعرفة الإنسانية بالحنين الذي ينتهي امتداده في الحلقات البشرية وليس مثل الأفيون التي لا يعود الإنسان يستحضرها، كما يراها بروتون، بل تأتيه من ذاتها تلقائية طاغية، ويضيف: إن على المبدع أن يقول في كلمات قليلة ما كان يقوله بالأمس في سطور كثيرة.

لقد قام أورخان بدور تنويري في تاريخ الحركة الأدبية السورية، إنه دور الشاعر المبدع والمفكر والمثقف الفذ.