مجلة البعث الأسبوعية

العلاج بالموسيقى بدأ في بيمارستان بدمشق.. 

تم ربط الموسيقى مراراً بتحسين حالات العديد من الأمراض. وفي العقود القليلة الماضية، لعب العلاج بالموسيقى دوراً متزايداً في جميع جوانب الطب الحديث

ويكاد يكون من المستحيل العثور على شخص لا يشعر بارتباط قوي بالموسيقى. وبقليل من البحث، قد تتمكن من العثور على قائمة من الأغاني التي تثير الذكريات السعيدة لديك وترفع معنوياتك.

وبعد أن استطاعت الأبحاث العلمية خلال العقود الأخيرة، ربط سرعة تعافي المرضى من العمليات الجراحية وتخفيف الألم باستماعهم للموسيقى، وصولاً لاستخدام الجراحين موسيقاهم المفضلة لتخفيف التوتر في غرفة العمليات، تم ربط الموسيقى مراراً بتحسين حالات العديد من الأمراض. وفي العقود القليلة الماضية، لعب العلاج بالموسيقى دوراً متزايداً في جميع جوانب العلاج. لكن ما حقيقة العلاج بالموسيقى عند المسلمين قديماً؟

 

الفارابي واستخدام الموسيقى  

هذا التأثير العميق للموسيقى على النفس البشرية عرفه العرب قديماً، وتمكنوا من استخدامه لأغراض علاجية عديدة، فكان الطب النفسي على وجه الخصوص على رأس الاختصاصات التي تم فيها استخدام الموسيقى لتحسين حالة المرضى وتسريع عملية التعافي.

ومن هذا المنطلق كان أبو نصر محمد الفارابي أول مَن استخدم الموسيقى في العلاج النفسي. وبلور الفيلسوف والطبيب العربي تلك الرؤية في مؤلفاته التي كان من بينها “كتاب الموسيقى الكبير” و”إحصاء الإيقاعات”.

وكان الفارابي فيلسوفاً في الأصل قبل أن يكون طبيباً وموسيقياً، لكن علوم عصره شهدت مزجاً بين الفلسفة وعلوم النفس والرياضيات والطب. ولم تكن الموسيقى تُعزف للمرضى في البيمارستانات (المستشفيات) التي تستخدم هذا الأسلوب في العلاج بطريقة واحدة، بل كان العازفون يقدمون مقامات مختلفة وفقاً لحالة كل مريض وتفضيلاته.

وقيل بحسب بعض القراءات التاريخية إن الفارابي اخترع آلة القانون المعروفة في عصرنا الحالي بعدما كان يبحث عن وسائل موسيقى أكثر قدرة على التأثير في المشاعر والمزاج العام وتحريك الانفعالات البشرية.

 

العلاج النفسي مدخل للتطبب.. والموسيقى دواء

وفي تاريخ الطب عند العرب، والمسلمين قديماً، لطالما ارتبط مفهوم الشفاء بالعلاج النفسي، حيث كانت ترد أسباب الكثير من العلل والأمراض إلى الجانب الروحي والخلل في النفس البشرية، وبهذا فإن المعالجات النفسية كانت تعتبر المدخل الرئيسي للتطبب في تلك الفترة المبكرة.

لكن الأمراض النفسية المباشرة شملت حينها الاضطرابات النفسية والسلوكية والهذيان، وتصدرها اختلال العقل الذي سُمِّى بالجنون، وكان العشق أيضاً يُصنف كمرض نفسي وكنوع من الجنون وعلل العقل.

وقد توصل الطب العربي في العصرين الأموي والعباسي على وجه الخصوص، إلى علاج الجنون بوسائل مختلفة ومبتكرة، تشمل الاهتمام بهذه الفئة بطرق عديدة ابتداء من غسل أجسادهم بالماء في الصباح، والمشي والتنزه واشتمام الزهور الطبيعية في الحدائق التي ترفق بهذه المستشفيات، كذلك استخدمت الموسيقى في العلاج.

وكان الطبيب عند العرب لا بد أن يكون مجيداً للعزف على العود، حتى إنه كان يتم قياس كمال الطب من إجادة العزف. وكذلك اشتملت العلاجات على اللحن والتنغيم والموسيقى بشكل أساسي، ومثال ذلك عزف الفيلسوف الطبيب  أبو بكر محمد بن زكريا الرازي على العود واستخدمه في شفاء العلل النفسية.

وكان المدخل إلى السيطرة على الحواس أو تهذيبها هو سبيل العلاج لجلّ الأمراض النفسية تقريباً، حيث يسيطر على السمع من خلال الموسيقى والأنغام، وعلى العين من خلال المناظر الرائعة والطبيعة الخلابة والحدائق، وعلى الذوق من خلال الأطعمة التي يتم اختيارها بعناية للمريض، والشم من خلال العطور الطبيعية والزهور التي تدخل البهجة في قلوب المعتلّين وتمتع أنظارهم.

بيمارستان قلاوون وعلاج الأرق  

وفي العصر المملوكي، أنشأ المنصور سيف الدين قلاوون (1222 – 1290) مستشفى في القاهرة اشتمل على أقسام عدة، لكن تركز دوره بالأساس في استقبال المرضى النفسيين والعجزة.

وجاء في الجزء العاشر من كتاب “وصف مصر” الذي وضعه علماء الحملة الفرنسية أواخر القرن الـ 18، أن كلاً من الجنسين كان يشغل جزءاً منفصلاً من المبنى، وكان يُقبل جميع المرضى دون تفرقة. أما الأطباء الذين التحقوا بكوادر العاملين بالمستشفى من مختلف مناطق الشرق، فكانوا يعاملون معاملة كريمة، وفي وقت لاحق أُلحقت بالمنشأة صيدلية جيدة التجهيز.

وذكر علماء الحملة عن تاريخ هذا البيمارستان أن كل واحد من المرضى كان يتكلَّف في اليوم قطعة من الذهب، أي ديناراً واحداً، كما كان يتكلف بخدمته شخصان، وأن المرضى الذين يعانون من الأرق كانوا ينقلون إلى قاعة منفصلة، وهناك يسمعون موسيقى متآلفة الأنغام، أو يقوم الحكاؤون المتمرسون بالترويح عنهم بسرد القصص.

 

بيمارستان النوري في دمشق  

شيّد نور الدين زنكي (حكم حلب بعد وفاة والده سنة 541 هـ) بيمارستان في دمشق عام 549 هـ الموافق 1154 ميلادياً، وأوقفه على الفقراء دون الأغنياء، إلا إذا لم يجد الأغنياء دواءً لعللهم في غير هذا المشفى.

ونقلاً عن الباحث أحمد فؤاد باشا في ورقته بعنوان “المؤسسات العلمية والتعليمية في عصر الحضارة الإسلامية” والوارد في كتاب “المؤسسية في الإسلام”، قالت المستشرقة الألمانية زيجريد هونكة، في محاضرة ألقتها قديماً في فناء هذا البيمارستان، إن المريض فيه كان يحظى بعلاج خاص، ويتم استضافتهم في عيادات متخصصة شديدة المراقبة، أو في أقسام الأمراض العصبية التي كانت المعالجات فيها دقيقة وحكيمة تجرى من قبل أخصائيين، بوسائل سابقة لعهدها كلياً، كالخضوع للمنوم الصحي، واستخدام الموسيقى في العلاج.

وكان العرب في ذروة عصر البيمارستان النوري رواداً في مجال الطب وكان الغرب يستعين بنصوص طبية مترجمة إلى اللغة اللاتينية للعمل بها. وكان العرب أول من استخدم مخدراً أساسه الكحول ليستنشق قبل العمليات الجراحية. وكان المزيج يحتوي على الأفيون وخلاصة زهرة ست الحسن والحشيش وكان يمكن حفظه لفترات زمنية طويلة.

ويُعتقد أن البيمارستان النوري من أول المؤسسات الطبية في العالم التي استخدمت الموسيقى كوسيلة لعلاج الاضطرابات العقلية والأمراض النفسية والجنون، أو ما كان يُعرف حينها بالعته والعلّة العقلية.

 

ابن سينا وعلاج “المالنخوليا”  

كتب أبو علي الحسين بن عبد الله بن سينا، سنة 1037 ميلادياً في كتابه “القانون في الطب”، أن الموسيقى تُعد علاجاً لعدد من الأمراض النفسية والعقلية التي تصيب الإنسان، مثل “المالنخوليا” التي يصاب صاحبها بأعراض منها الإفراط في التفكير والوسوسة، والتحديق في نقطة ثابتة، والهذيان بالقول، والخوف من أشياء غير منطقية مثل سقوط السماء أو انشقاق الأرض تحت أقدام المريض.

وذكر ابن سينا قائمة من العلاجات لهذا المرض أهمها “تطريب المريض بالسماع إلى الموسيقى والمطربات، باعتبارها أشياء مهمة يمكن أن تشغله عن الفراغ والخلوة والتفكير المبالغ فيه”.

واعتبر ابن سينا أنه يجب تخصيص بعض النغمات وفقاً للتوقيت خلال اليوم، ففي الصبح الكاذب يجب عزف نغمة “رهاوي”، وفي الصبح الصادق “حُسينى”، وفي الشروق “راست”، وفي الضحى “بوسليك”، وفي نصف النهار “زَنكولا”، وفي الظهر “عُشّاق”، وبين الصلاتين “حِجاز”، وفي العصر “عِراق”، وفي الغروب “أصفهان”، وفي المغرب “نَوى”، وفي العشاء “بُزُرك”، وعند النوم “مخالف”.

وعاد هذا التقسيم الزمني في استعمال النغمات الموسيقية إلى أن الإنسان يمرّ بحالات نفسية مختلفة قد تصل إلى التناقض خلال اليوم الواحد تبعاً لظروف حياته ونمط معيشته من الاستيقاظ حتى النوم.

ووفقاً لأستاذ تاريخ الطب بجامعة حلب عبد الناصر كعدان، والباحثة في الموسيقى العربية ميس قطاية في دراستهما المشتركة بعنوان “العلاج بالموسيقى في الطب العربي”، لم يقصر ابن سينا نصحه بالغناء والموسيقى على المصابين بآفات عقلية أو نفسية، فقد أوصى بهما أيضاً لتسكين الأوجاع، والمساعدة على النوم، وعلاج حميات اليوم (العرضية)، والحمى.

وبحسب الباحثين، “كان ابن سينا يرى أن في النبض طبيعة موسيقية، وأنه ذو نسبة إيقاعية في السرعة والتواتر، لذا حدد لكل وقت من أوقات الليل والنهار نغمته الخاصة به”.

 

 أبحاث في الطب بالموسيقى

وفي حين تم الاعتراف بالموسيقى منذ فترة طويلة على أنها شكل فعال من أشكال العلاج لتوفير منفذ عاطفي للمشاعر، فإن فكرة استخدام الأغاني وترددات الصوت والإيقاع لعلاج الأمراض الجسدية هي مجال جديد نسبياً في عصرنا الحالي الحديث.

وتشير الدراسات الجديدة لفوائد الموسيقى على الصحة العقلية والجسدية على حد سواء، على سبيل المثال، في التحليل التلوي لـ400 دراسة مُجمّعة، وجدت الباحثة موناليزا تشاندا، أن الموسيقى تحسن وظيفة الجهاز المناعي للجسم وتقلل من الإجهاد. كما وجدت أن الاستماع إلى الموسيقى يُعد أكثر فاعلية من الأدوية الموصوفة بوصفة طبية خاصة في تقليل القلق قبل إجراء الجراحة.

وأشار التحليل أيضاً إلى كيفية تأثير الموسيقى على الصحة، ووجدت الباحثة أن الاستماع إلى الموسيقى وتشغيلها يزيد من إنتاج الجسم للأجسام المضادة المناعية A والخلايا القاتلة الطبيعية، التي تهاجم الفيروسات وتعزز فاعلية الجهاز المناعي. كما تقلل الموسيقى أيضاً من مستويات هرمون الإجهاد الكورتيزول، ما يعزز الشعور بالهدوء والاسترخاء.