ثقافةصحيفة البعث

أولى ندوات معرض الكتاب السوري.. الرواية تاريخ من لا تاريخ له

حضر التاريخ في الرواية السورية والعربية في أولى الندوات المدرجة ضمن النشاط الثقافي المرافق لمعرض الكتاب السوري الذي تحتضنه مكتبة الأسد الوطنية، وقد حملت عنوان “الرواية تاريخ من لا تاريخ له” بمشاركة د. نذير جعفر، خليل صويلح، د. ماجدة حمود، وإدارة د. فاروق سليم الذي أكد أن الرواية التاريخية الحقيقية هي الموجودة الآن والتي تعنى بقضايا الإنسان وهمومه، والمنفتحة على الأجناس الأدبية المختلفة والتي تناقش قضايا راهنة وتسلّط الضوء على شرائح المجتمع المهمّشة المسكوت عنها لسبب ما، فيأتي الروائي ليقدم نصه عنها وكأنه تأريخ.

رواية المخيّلة لا رواية الوقائع
تغيَّب الناقد د. نذير جعفر عن الندوة لأسباب صحية وحضرت مداخلته التي قرأها المترجم والكاتب حسام الدين خضور وكانت تحت عنوان “المرجعية التاريخية وفاعلية التخييل الروائي.. علي أحمد باكثير نموذجاً” كأحد رواد الأدب العربي في القرن العشرين، وقد أشار د. جعفر في بداية مداخلته إلى مفهوم الرواية التاريخية عند د. سعيد علوش باعتبارها سرداً قصصياً يرتكز على وقائع تاريخية تنسج حولها كتابات تحديثية ذات بعد إيهامي معرفي، وعند جورج لوكاش كرواية تثير الحاضر ويعيشها المعاصرون بوصفها تاريخهم السابق، مبيناً أنه وإن كان لا يميل لأي تعريف مطلق للرواية التاريخية إلا أن تعريفها عند علوش ينطبق على روايات جرجي زيدان التاريخية، في حين أن أعمال باكثير الروائية التاريخية هي أقرب إلى تعريف لوكاش الذي لا يعود إلى التاريخ ليعيد شرحه وتوصيفه وإنما ليركز على لحظاته المفصليّة ذات البعد التراجيدي للكشف عن تقاطعاته مع الحاضر، موضحاً أن الرواية التاريخية عند “باكثير” تقوم أساساً على تتبع السيرة النصية للشخصية التي تشكّل المتن الحكائي، فلا ينشغل بالقضايا الكبرى التي تواجهها أو بسرد أعمالها بقدر ما ينشغل بالتفاصيل الصغيرة في حياتها اليومية وفي مشاعرها ونزواتها بحيث يبلغ التخييل مداه، فتتحول الشخوص المنزوية في بطون الكتب إلى كائنات حية من لحم ودم لا تعيش ماضيها فحسب بل تقتحم حاضرنا وتعرّي ذواتنا لنعيش معها متعة الكشف ولذة المعرفة بحيث لا يصبح هم القارئ أمر المطابقة بين نص التاريخ ونص الرواية، أو بين الحقيقة والتخييل، وإنما دلالة المشهد وعمق تأثيره في النفس، وقدرة الكاتب على استنطاقه لتلك الشخصية حتى لو لم تكن قد قالت ما قالته بالتحديد. وبيّن د. جعفر أن المشاهد الوصفية التي تزخر بها روايات باكثير تكشف عن التحول الكبير في مسار الرواية التاريخية والنقلة النوعية التي أحدثها فيها، فهي لم تعد رواية الأحداث والمعارك والبطولات والهزائم فحسب، بل أصبحت رواية الإنسان بأدق مشاعره وخلجاته، رواية المخيّلة لا رواية الوقائع، تقرأ التاريخ لا لتعيد كتابته وإنما لتستنطقه وتسائله وتعيد إليه الروح، ليكون الاشتغال على التاريخ عند باكثير -برأي جعفر- اشتغالاً خلّاقاً لا يقع أسير الحادثة أو الموقف، وإنما يندفع تجاه استبطان الدوافع والغايات وراء كل سلوك من سلوك أبطاله وشخصياته الثانوية ضمن سمات فنية ميزتها، تأتي في مقدمتها مساحة التخييل الواسعة التي منحت رواياته مشروعيتها الإبداعية ووضعتها في مصاف الروايات التي تلتقط ما هو جوهري في الحياة والنفس البشرية.

خديعة المؤرخ
وبمشاركة إشكالية حملت عنوان “خديعة المؤرخ” بيَّن الروائي والناقد خليل صويلح أن الرواية تعمل من موقع اللايقين بوصفها عملية تحرش وتنكيل سردي بالتاريخ، وذلك باستثمار التخييل الذاتي، وأن الروائي وفقاً لذلك خيميائي يسعى عن طريق اللغة والخيال إلى تدوين وصفة سحرية تقود إلى فضح فجوات التاريخ بما يشبه الاستجواب حيث الكتابة حالة افتضاح وتنكيل بوثيقة ما، وهذا ما نجده -برأي صويلح- في بعض أعمال عبد الرحمن منيف وصنع الله إبراهيم والألباني إسماعيل كادريه في روايته “الوحش” والذي يشكك بوجود حصان طروادة بكل ثقله الواقعي والرمزي، واضعاً افتراضات منطقية في سعيه لكشف خديعة المؤرخ القديم وأضاليل التاريخ، وهذا ما فعله خوسيه ساراماغو في روايته “تاريخ حصار لشبونة” باستنطاق التفاصيل وإعادة التاريخ المكتوب إلى غرفة التحقيق وتفكيكه وفضح خفاياه من جهة، والاهتمام بما هو إنساني وأرضي من جهة ثانية. وبالمقابل رأى صويلح أن بعض الروائيين عملوا على تأصيل تاريخ موازٍ أكثر إقناعاً مما أورثنا إياه المؤرخون كما لدى نجيب محفوظ في حفرياته السردية للقاهرة القديمة، وهذا برأيه لا نجده عند روائيين آخرين لخشيتهم من تعيين المكان الروائي بقصد التعمية عن مواجهة واقعهم بجرأة وصناعة أمكنة مؤنسنة على غرار طنجة لدى محمد شكري، ودبلن جيمس جويس، مذكراً كذلك بما جاء في كتاب ميلان كونديرا “خيانة الوصايا” والدعوة إلى انتقام تاريخ الرواية من التاريخ نفسه وإلى روعة نسيان التاريخ بحقائبه المحشوة بروايات الاعترافات الشخصية والسيرة والجدل السياسي، مؤكداً أن الروايات التي تفتقد بنية جمالية جديدة لن تنجو طويلاً تبعاً لصعود واحتضار الذائقة العامة، ليختم صويلح مشاركته بالإشارة إلى عنوان الندوة “الرواية صنع تاريخ لمن لا تاريخ له” ويبيّن أن الرواية العربية لم تتجاوز ما صنعه الأسلاف بتصدير شخصية ما تمتزج بالشارع العمومي على غرار شهرزاد أو الطنبوري، مرجحاً ذلك لهشاشة الارتطام بمحرمات لا تُحصى.
السيرة الذاتية والتاريخ
أما د. ماجدة حمود فقد رأت من خلال مشاركتها أن اندفاع الروائي العربي نحو إبداع رواية تاريخية كونها تتيح للمبدع حرية تقديم عالم متعدّد في الفكر والمعتقد بكل أزماته وكفاحه نحو عالم أفضل، وتساءلت هل الرواية التاريخية دليل عشق العرب للماضي والتغني بأمجاده؟ أم هي محاولة للهروب من عيش اللحظة والعيش في أوهام ماض، فتقوم المخيلة بتصويره بمنأى عن كل قبح؟ هل تعني العودة إلى التاريخ هروباً من هموم عصرنا وبؤس واقعنا؟ أم تعني إسقاط هموم هذا الواقع على الماضي فيصبح الروائي أكثر حرية في التعبير ومواجهة الذات؟ مؤكدة أن جمال الرواية يكمن في قدرتها على هدم الحدود بين الأزمنة والأمكنة فيتمكن المتلقي من عيش الماضي بعد أن ينتقل إلى الحاضر عبر تقنيات روائية ممتعة، مشيرة كذلك في مشاركتها تحت عنوان “الرواية بين السيرة الذاتية والتاريخ” إلى غادة السمان، متناولة أعمالها كـ”الرواية المستحيلة فسيفساء دمشقية، سهرة تنكرية للموتى، يا دمشق وداعاً فسيسفاء التمرد” التي خرجت فيها السمان برأي حمود من هيمنة المؤلف أو الراوي الذي يقرب الرواية من السيرة لتتوقف عند عمليها الأخيرين اللذين هما برأيها أشبه بسيرة روائية وهي التي قدمت في أعمالها الأولى “بيروت 75، كوابيس بيروت، ليلة المليار” ما يشبه الرواية التاريخية حين امتزجت في روايتها الثانية السيرة الذاتية بلغة توثق للحرب بشكل يومي لتوثق في روايتها الثالثة لمرحلة تاريخية عاشتها بيروت إثر الحرب، راصدة حمود كذلك في مشاركتها امتزاج السيرة الذاتية بهمّ اللحظة التاريخية في رواية السمان السيرية بجزأيها الأول والثاني من خلال الشخصية التي عاشت أواخر الأربعينيات وبداية الستينيات.

أمينة عباس