الصفحة الاخيرةصحيفة البعث

جورج سالم

حسن حميد

لا أحد يجرؤ على تعريف الظاهرة الأدبية لأنّ للتعريف مخاطره وتخوّفاته، ويأتي في طالعها عدم المُكنة من الإحاطة، لأنّ كل تعريف قابل للمضايفة، لكن الظاهرة الأدبية توصّف، وتُكتب سيرتها، ومن الممكن واليسير أن تعدّد إيجابياتها، وتُعرف جهات ذكائها، وتتبدّى وجوه تفرّدها وتمايزها من غيرها.

والظاهرة الأدبية ليست لصيقة بمكان أو شعب، إنها حال إبداعية تعرفها الأمكنة والشعوب والذوات البشرية جميعاً، ولأنّ الحديث عنها واسع ومديد فإنّني سأقصر كلامي على بعض الظواهر الأدبية في بلادنا العزيزة سورية، واستهلالاً أقول إنّ الظاهرة الأدبية لا تعني الإبداع وحده أبداً، وإنما تعني الاشتقاق والابتكار والإبهار داخل دائرة الإبداع، وسأتوقّف هنا عند جورج سالم (1933-1977) الذي أعدّه ظاهرة أدبية في قصصه القصيرة التي لم تماش السياقات التي عرفتها نصوص القصة القصيرة في سورية في عقدي الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي (وهما العقدان الذهبيان للقصّة القصيرة السورية العربية في آن)، فقصصه أدارت ظهرها للواقعية الاشتراكية وما جاءت به من أفكار ورؤى نقدية، ومع ذلك ظلّت قصصاً قصيرة رائقة صافية، كما أدارت ظهرها للأفكار والرؤى التي جاءت بها مدارس أخرى آمنت بالغموض، والتلاعب بالأزمنة، وتيار الوعي، والخيال المجنّح، والغرائبية، والعجائبية، ومع ذلك ظلّت قصصاً قصيرة رائقة صافية لها جماليتها الخاصة.

لقد أخفى جورج سالم الأمكنة طي الأسطر، مثلما أخفى أسماء الشخوص، ورمز إليها بأحرف أو إشارات كي لا تبدو مرجعياتها الطبقية، والثقافية، والعقائدية، والمكانية، لأنّه أراد أن يكتب نصّاً كونياً، إن قرأه قارئ في استراليا أو توغو استمتع به، وشعر بالانتماء إليه، وتمثّله لأنّه أصاب وتراً ما في داخله فيهيّج مشاعره. كما أنّ جورج سالم أخذ بمقولة أهل النقد، بأنّ الفلسفة هي الملح الحافظ للنصوص من البلى والتقادم، فغمس أسطره فيها، وجعل الحكاية مضبوطة في اندفاعها، لصالح الكلام لا لصالح الحكي، وجعل للحكاية هدفاً لا تكشفه إلا العين النفوذ الباصرة؛ ولهذا فإنّ من يقرأ قصص جورج سالم المكتوبة قبل خمسين سنة سيشعر بأنها قصص لم يجف حبرها بعد، وأنّ قولاتها ومراميها آبدة لأنّها علوق بالروح الإنساني الذي لا يُقهر وإن لفّته الخيبات، ولا يموت لأنّ له إنابة في الحياة هي ما تركه من عمل أو أثر.

وجورج سالم ظاهرة أدبية في هدوئه الجمّ، وبعده عن صخب الصحف والمجلّات والأنشطة والمناصب للأدباء والشعراء والفنّانين، وبعده عن  أحلامهم في الظهور والسفر وكثرة الأحاديث عن أعمالهم للترويج لها، وعدم عقده للصداقات مع الإعلاميين والنقّاد وأهل الرأي، والقائمين على تسيير منابر القول والحوار والكتابة، وعن الملتقيات والمهرجانات والأندية، وعدم خوضه في جدالات صاخبة في المقاهي، والأروقة.

لقد ورّث جورج سالم صفاءه لنصوصه القصصية، مثلما ورّثها عشقه للفلسفة، وتراسل الفنون والآداب داخل النص الواحد، وهذا ما أسماه االنقّاد بـ(الدوائر المتسامحة) التي تبقي حلقاتها مفتوحة قابلة للعطاء والمضايفة ما بين لوحة تشكيلية ونص قصصي، وما بين حال واقعية  وأخرى أسطورية، لا بل إنّ ثقافة التأمل التي ميّزت جورج سالم بين أقرانه من الأدباء والفنانين هي التي أفردت المكانة لنصوصه القصصية.

وحين أقول إنّ جورج سالم ظاهرة أدبية في مدونة القصة القصيرة السورية، فإنّني أستند إلى معطيات تأثيره في نصوص الآخرين من كتّاب السرد (روايةً وقصّةً) الذين راحوا يقلّدونه من أجل أن يدلقوا روح الحياة في نصوصهم، ومن أجل أن تنجو نصوصهم من لوثة الآنية والمرافعة والخطاب والتقرير، لكنّ التقليد ظلّ تقليداً، والأصيل ظلّ أصيلاً، فتجربة جورج سالم القصصية ظاهرة أدبية لافتة للانتباه في مكوّناتها وأهدافها، مثلما كان هو ظاهرة أدبية لافتة للانتباه في سلوكه وعمله.

Hasanhamid55@yahoo.com