مجلة البعث الأسبوعية

الكيان الصهيوني على فوهة بركان الحرب الأهلية

البعث الأسبوعية- محمد نادر العمري

على الرغم من كل المحاولات التي سعت من خلالها جميع حكومات الكيان الصهيوني ، منذ زرعه ككيان مغتصب في المنطقة عام 1948 من قبل الحركة الصهيونية بالتعاون مع الدول الغربية في مقدمتها بريطانيا, في إظهار التماسك، و تخفيف وتيرة مؤشرات الانفجار الداخلي وتحقيق الانسجام تحت مسميات متعددة كان أبرزها “بوتقة الانصهار” التي طرحها أول رئيس حكومة لهذا الكيان “ديفيد بن غريون” والتي سعى من خلالها لتحقيق انسجام بين اليهود الغربين مع اليهود الشرقيين والقادمين من دول نامية, ليطرح في حينها مسألة الصراع بين الإشكيناز والسفارديم, حيث تعتبر الفئة الأولى والقادمة من الغرب هي الفئة الأكثر تعلماً وتمتلك خبرات علمية وعملية، فضلاً عن أن معظم قادة الحركة الصهيونية ومؤسسي الكيان ينتمون لها, على عكس الثانية أي السفارديم والتي شكلت بسوادها الأعظم برؤية الفئة الأولى مجرد أعداد تضع على الخطوط الأمامية في القتال ضد الشعب الفلسطيني على مستوى الجنود فقط, وكذلك على خطوط التماس في المستوطنات المتطرفة. رغم ذلك كان قادة الكيان يعتقدون أن هذا الصراع هو طبيعي ولن يتفاقم مع مرور الزمن, بل على العكس من ذلك فإنه مع مرور الزمن سيتمكن السفارديم من الاندماج أكثر مع أقرانهم الأشكيناز وسيتحفزون أكثر نحو التعليم والعمل .

غير أنه في احتفال الكيان مع الذكرى الخمسين لاغتصابه وقيامه في فلسطين العربية, بات الخلاف على كل شيء، حيث بات اتساع أطراف الخلاف أكثر من السابق هو السمة التي تميزه, وهو ما دفع الكثير من النخب السياسية للقول بأن هدف “صموئيل هرتزل” مؤسس الحركة الصهيونية بدأ يتلاشى, فإن كان قد تبنى إقامة وطن لليهود في فلسطين لتلاشي الخلاف والحد من تشتتهم حول العالم, ها هم باتوا اليوم أكثر تشتتاً وابتعادً داخل رقعة واحدة ضمتهم وجمعتهم, حتى ذهب أحد أبرز المفكرين الصهاينة ويدعى “آلون بنكاس” للقول: ” نتيجة تضخم الداخل الإسرائيلي بقوميات متعددة واتجاهات مختلفة وخليط غير منسجم من المعتقدات, بات المجتمع الإسرائيلي من أكثر المجتمعات في العالم انقساماً وتشرذماً وتفككاً”. وتأكيداً لهذا الكلام تزامنت تلك الفترة, أي مطلع التسعينات, لاتساع رقعة الصراعات الداخلية, فإلى جانب الصراع التقليدي بين العرب والصهاينة من جانب، وبين الأشكيناز والسفارديم من جانب آخر, احتدم الصراع بين العلمانيين والمتدينين المتشددين الذين تمكنوا من توسيع نفوذهم ووصولهم لمراكز حساسة في الجيش والسياسية بشكل واقعي في حقبة ما بعد الثمانينات وبداية التسعينات من القرن الماضي, وأصبحوا يشكلون مركز القوى لليمين الإسرائيلي الذي استطاع قلب موازين القوى وسلب المشهد السياسي وكسر احتكاره من اليسار التقليدي, وهو ما دفع مراكز دراسات مقربة من الحكومة الإسرائيلية لطرح أسئلة عن سيرورة الكيان، ووضع علامات استفهام حول المستقبل في ظل هذا الواقع المتأزم داخلياً.

هذا المشهد دفع البروفسور الجامعي “أفشلوم فيلان”، لتأكيد فرص وقوع الحرب الأهلية داخل الكيان في خضم عواملها وظروفها وأركانها القائمة، نظراً إلى الانقسام الحاد بين المتديّنين والعلمانيين، والانقسامات العميقة بين الإثنيات اليهودية المتعددة. واعتبر فيلان حينها أنَ اليمين المتطرف يمثل تهديداً وجودياً لـ “إسرائيل”، وأنه سيقود إلى ما أسماه “الخراب الثالث للهيكل المزعوم” حسب وصفه.

بالحقيقة ليس من المغالاة القول إن ما يسمى بـ “دولة إسرائيل” أو المجتمع الإسرائيلي لا يمتلك مقومات الاستمرار في ظل انقسامات داخلية تعكسها الأحزاب الإسرائيلية وخلفياتها من ناحية، والتوزعات الديموغرافية من ناحية أخرى، والمعتقدات المتبناة من طرف كل فريق من ناحية ثالثة, فما يتبناه الأشكناز الغربيين على سبيل المثال من معتقدات وتبني لمفهوم المعاصرة والحداثة يختلف جذرياً وكلياً ويتناقض في واقع الحال مع ما تتبناه الأرثوذوكسية اللا صهيونية المعروفة بـ الحريديم, فالأولى تنظر للمعاصرة بأنها تبني قيم الحرية والانفتاح والعلمانية وهي مقومات للحياة الإنسانية, في حين تعتبرها الحريديم بأنها إفسادً للحياة اليهودية وستؤدي إلى انهيار وتدمير الحياة اليهودية بالكامل.

كما إن التأجيلات من الخدمة العسكرية والذي ما  يلبث أن يتحول لإعفاءات لفئة المتدينين, يزعج العلمانيين ويعتبرونها مجرد وسيلة يتذرع بها المتدينون تحت ما يسمى تعلم الدين للتهرب من الخدمة العسكرية. فضلاً عن وجود الكثير من المشكلات المتأزمة بين العلمانيين والمتدينين والتي صنفت وفق معهد الأمن القومي الصهيوني بأن كل منها تشكل لغماً مفجراً للحرب الأهلية بدءاً من تمسك كل من الطرفين بمواقفهما من الدولة وصولاً للخدمة الإلزامية مروراً بالإشكاليات الأخرى كالطعام وأعياد السبت ومكانة المرأة والموقف من الزواج المختلط وموضوع تشريح الجثث والكثير الكثير من المشكلات المعقدة.

حتى إن دائرة الصراع لم تقتصر بين العلمانيين والمتدينين فقط, بل طالت المتدينين أنفسهم ومن أحدث صور هذا الصراع هو الانقسام الحاد بين يمين الوسط واليمين المتشدد، والانقسام المستجد داخل الصهيونية الدينية بعد تحالف بينيت/ شاكيد مع رموز اليسار في حزبي “العمل” و”ميرتس” وحزب “التجمع” بزعامة منصور عباس.

تطور الصراع والحرب الأهلية

تطور الصراع الداخلي المهيأ للحرب الأهلية ازداد مع العنصرية التي مورست على ما يسمى بأقلية الفلاشة وهي أقلية صهيونية تم استقدامها من أفريقيا لكي تكون بمثابة الخدم أو الغويم اليهوديين للصهاينة البيض, حيث شهدت الأعوام الخمسة السابقة عدة أحداث دفعت الفلاشة للتظاهر ضد الأعمال العنصرية التي تعرضوا لها كان أبرزها قتل أشخاص منهم عام 2018, وهو ما دفع رئيس الشاباك الصهيوني “نداف أرغمان” حينها للتحذير من تواتر العنف وازدياد التطرف الخطير في النقاش العنيف والمحرض، وخصوصاً في مواقع التواصل الاجتماعي الذي انعكس على واقع الشارع المتأزم.

هذا التأزم وارتفاع وتيرة الحرب الداخلية تفجر بشكل مفاجئ وخارج الحسابات غير المتوقعة لحكومة الكيان, وحصل تحديداً أثناء معركة ” سيف القدس ” عندما انتفضت المناطق العربية داخل ما يعرف بأراضي 48 ضد الصهاينة, وقد شكلت مدينة اللد وأحياء القدس صورة هذه التحركات المقاومة, حيث اعتقد اليهود أن العرب المتواجدين داخل سلطتها الاحتلالية سيؤدي بهم نحو نسيان قضيتهم وانتمائهم الحقيقي, حتى إن هذه الصورة دفعت رئيس دولة الاحتلال السابق للتصريح على القناة 12 بأنها “حرب أهلية” حيث تحولت المدن الإسرائيلية المختلطة إلى جبهات أمامية جديدة تشكل خطراً على “دولتنا”.

من خلال ما سبق يمكن تأكيد عدة مسلمات لا يمكن إنكارها،  حيث تشكل اعترافاً وإقراراً من قبل الصهاينة أنفسهم:

  • قيام الكيان الصهيوني وزرعه في المنطقة بشكل عنصري أدى لتوارث هذه العنصرية بين الصهاينة أنفسهم, حتى أنهم في أكثر من مرة صنفت “إسرائيل” من قبل منظمات دولية بأنها “نظام الأبارتايد” ضد العرب وفيما بينها.
  • النظام العنصري في الكيان تطور من حلقات واسعة وبين أيديولوجيات تقليدية بشكل مؤثر وأكثر تشرذماً لحلقات أضيق وأكثر تفجراً, فالصراع التقليدي بين الأشكيناز والسفارديم اليوم يتسع ليطال الفلاشة, وبين العلمانيين والمتدينين، ثم بات اليوم بين المتدينين أنفسهم.
  • النخب والرموز السياسية والعسكرية في الداخل الصهيوني يقرون بحتمية الحرب الأهلية, ولعل البروفيسور “شاء وول ايزنشتات” في توصيفه بأن “إسرائيل” تقف على جمرة من النار الحامية تخفيها طبقة ضئيلة من الرمال, وسنزاح مع أقرب فرصة, والجميع في “إسرائيل” بات على اقتناع بأن العلاقات المتوترة القائمة على المصالح المشتركة ستزول يوماً ما, وهو سيفجر فوهة البركان المتمثلة بالحرب الأهلية.