دراساتصحيفة البعث

الاقتصاد قبل السياسة

ترجمة: عائدة أسعد

في 11 كانون الأول عام 2001 وبعد 15 عاماً من المفاوضات المعقدة انضمّت الصين إلى منظمة التجارة العالمية، وكان هذا الحدث -الذي جرى في منتصف العقود الأربعة من الإصلاح الاقتصادي والانفتاح في البلاد- مفصلياً لكل من الصين والاقتصاد العالمي. وعلى مدى السنوات العشرين اللاحقة شرعت البلاد في فترة من النمو الاقتصادي الهائل وغير المسبوق، وارتفعت الصادرات والواردات والناتج المحلي الإجمالي بمتوسط ​​معدلات سنوية في منطقة مجاورة تبلغ 13 في المائة (بالدولار الأمريكي الثابت).

ومن وجهة نظر صنّاع السياسة في الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي ودول غربية أخرى كان الصعود الاقتصادي السريع للصين نعمة ونقمة في الوقت نفسه، فالمستهلكون الغربيون سعيدون بشراء منتجات رخيصة الثمن نسبياً من الشركات المصنّعة الصينية، واستفاد المزارعون من سوق جديدة ضخمة لسلعهم. ومع ذلك فشلت المصانع الغربية في كثير من الأحيان في التنافس مع التكاليف المنخفضة والكفاءات الأكبر لنظيراتها الصينية مما أدى إلى انخفاض سريع في عدد وظائف التصنيع، وما يصاحب ذلك من تداعيات سياسية في أمريكا الشمالية وأوروبا.

ونظراً لعدم قدرتهم على إعادة توزيع المكاسب والخسائر الناشئة عن النموذج الجديد، عالج قادة الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي السخط المحلي من خلال عزو نجاح التصنيع في الصين إلى الدعم الحكومي غير المناسب وإغراق المنتجين، وهم ما دفع لاحقاً إلى تقديم العديد من الشكاوى إلى منظمة التجارة العالمية ضد الصين، حيث تمّ تسجيل على مر السنين 32 شكوى ضد الصين من 2004 إلى 2018.

وعلى الرغم من أن الولايات المتحدة كانت ناجحة في جميع شكاوى منظمة التجارة العالمية ضد الصين خلال العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، إلا أنها خسرت معظم النزاعات التي رفعتها ضد الصين، بالإضافة إلى الدول الشاكية الأخرى خلال الفترة الزمنية نفسها، بالاقتران مع خسائر محبطة للدول الشاكية، وهو ما قاد الولايات المتحدة للبدء بسلسلة من الإجراءات لتقويض دور منظمة التجارة العالمية في تحقيق الاستقرار في التجارة العالمية.

لقد أعرب ترامب بعد الهجمات على منظمة التجارة العالمية عن ازدرائه لتلك الهيئة وتكشّف عزمه الالتفاف عليها، ومع ذلك كان باراك أوباما سلف ترامب الأكثر هدوءاً حين شنّ أول هجوم سياسي على منظمة التجارة العالمية من خلال منع التعيينات في هيئة الاستئناف التابعة لنظام تسوية المنازعات، حتى استمرت تلك السياسة التي بدأت في عام 2011 طوال ما تبقى من إدارة أوباما، وتابعها ترامب بعد تنصيبه في عام 2017.

ولأن الأعضاء السبعة في هيئة الاستئناف التابعة لمنظمة التجارة العالمية يعملون لفترات محدّدة، قضت العرقلة السياسية للولايات المتحدة على اللجنة تماماً بحلول نهاية عام 2020. ولمعالجة هذا الفراغ يستخدم عدد محدود من أعضاء منظمة التجارة العالمية (بما في ذلك الاتحاد الأوروبي والصين) الآن البديل الطوعي المؤقت لهيئة الاستئناف، أي ترتيب التحكيم في الاستئناف المؤقت متعدّد الأحزاب، لكن هذا الإجراء المؤقت لا يتمتع بوضع محكمة الاستئناف النهائي، ومن غير المرجّح أن يحدث تأثيرات كبيرة في منازعات منظمة التجارة العالمية التي لم يتمّ حلها والتي نمت بشكل مطرد منذ عام 2011.

كما أن الرئيس الأمريكي جو بايدن الذي مضت عشرة أشهر على توليه منصبه لم يفعل الكثير لتوضيح موقف إدارته من إصلاح منظمة التجارة العالمية. وعلى الرغم من أن الولايات المتحدة لم تربط استياءها رسمياً بهيئة الاستئناف التابعة لمنظمة التجارة العالمية بانتقادها للصين باعتبارها اقتصاداً غير سوقي، إلا أنه تمّ الخلط بين المسألتين في الممارسة العملية من خلال نهج ترامب غير المتوازن. لذلك يرى العديد من المحللين أن موقف الولايات المتحدة يجعل تعيينات هيئات الاستئناف رهينة لإصدار قواعد جديدة تهدف إلى تصنيف الصين على أنها اقتصاد غير سوقي.

لكن في الواقع، إن اقتصاد الصين يعتمد بشكل كبير على قطاعها الخاص في التنمية الاقتصادية، حيث تظهر الإحصائيات أن ما يقرب من 60 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي، و70 في المائة من الابتكار، و80 في المائة من العمالة الحضرية، و90 في المائة من الوظائف الجديدة في الصين تُعزى إلى نشاط تجاري غير حكومي، في المقابل يتمتع عدد قليل من اقتصادات الاتحاد الأوروبي بمستوى مماثل من المنافسة والابتكار في القطاع الخاص.

لقد قدّمت الصين في عام 2019 اقتراحاً لإصلاح أربع نقاط لمعالجة القضايا الرئيسية التي تواجه منظمة التجارة العالمية حالياً، وحدّدت النقطة الأولى في أزمة هيئة الاستئناف باعتبارها واحدة من عدة مشكلات وجودية تتطلب اهتماماً فورياً، بينما أكدت النقطة الرابعة على الحاجة إلى الاعتراف بصلاحية مجموعة واسعة من النظم الاقتصادية، بما في ذلك تلك التي تتبناها الدول النامية، وكذلك تلك التي تتميّز بها من قبل كل من الشركات المملوكة من قبل الدولة والأسعار القائمة على السوق.

لذلك، لكي تستعيد منظمة التجارة العالمية فعاليتها في حلّ النزاعات من الضروري إعادة لجنة هيئة الاستئناف إلى هيكليتها الأساسية المكونة من سبعة أعضاء، ومنح أعضائها الحرية في مناقشة مختلف مقترحات الحوكمة ضمن إطار زمني مريح، لأنه مع إنهاء الأزمات سيدرك صانعو السياسة من جميع أنحاء العالم أن قوى السوق الاقتصادية وليس العلامات السياسية هي التي تعتبر ضرورية لتحديد الأسعار بشكل مناسب.