اقتصادصحيفة البعث

رؤية في السوق السوداء.. واقع وآفاق

ظاهرة السوق السوداء المزمنة للعديد من المواد المقننة (المحروقات بأنواعها- الاسمنت- السماد- المواد الغذائية المقننة- مواد الإغاثة بأنواعها أياً يكن مصدرها: جهات رسمية- منظمات دولية، أو جمعيات أهلية- والمواد المهربة) ذات غطاء شفاف يتيح للرقابة الرسمية والشعبية رؤية نسبة غير قليلة منها، وكبح جماحها ليس بالمستوى المطلوب، وكأن العين بصيرة واليد قصيرة، ولكن غاب عن بال الكثيرين أن واقع هذه السوق يفرض نفسه، لأن بعض الذين يحصلون على المواد ليسوا من مستحقيها، أو ليسوا من محتاجيها جزئياً أو كلياً، أو أنهم من مستحقيها ومحتاجيها، والحالة المادية لهؤلاء تفرض عليهم إمكانية الاستغناء عن بعض هذه المواد لصالح بيعها واستخدام ثمنها لحاجات أخرى أكثر ضرورة لهم، كل ذلك يوفر مواد السوق السوداء.

من جهة ثانية يوجد آخرون يحتاجون هذه المواد، لكن الكميات المستحقة لهم لا تكفيهم، ولا تتوفر حاجتهم منها في السوق، أو أن سعرها مرتفع جداً حال توفرت، ما يدفعهم لشرائها من الذين لديهم فائض، وغالباً يدخل التجار كوسطاء بين البائعين والشارين، ما يجعل كمية توفر المادة وسعر مبيعها مختلفاً بين زمان ومكان، وتتأجج نار السوق السوداء حال ازداد عدد الشارين، واستفحلت ندرة وجودها في السوق.

الخطورة الكبيرة تتجلى عند بروز دور الفساد الذي يعمل للحد من وجود المواد في السوق، ويعمل لتخفيف نسبة توزيعها على المستحقين، وزيادة توفيرها في السوق السوداء بكميات إضافية من خلال تلاعب الجهات والمتعاملين معها، كأن تقدم جهة ما وثائق مزورة بأنها أعطت كذا قطعة أو كذا طن من مادة ما إلى جهة ما، أو ادعت أن بعض موادها تعرّضت للتلف أو للسرقة، لكنها قد باعت ذلك إلى أحد تجار السوق السوداء، كأن تبيع جمعية فلاحية كمية العلف المخصص لها في أحد الأشهر لتاجر سوق سوداء، وتسجل في قيودها أنها سلمتها للمربين، أو يبيع مركز بيع اسمنت أطناناً لتجار السوق السوداء ويسجل أنه باعها لمواطنين، أو تسجل جهة ما أنها قد منحت سلات غذائية أو بطانيات لقرية ما أو لجمعية ما، وتبيعها لتاجر سوق سوداء، عدا عن كميات السوق السوداء التي قد توفرها بعض الجهات عن طريق التلاعبات بأعداد وكيل ووزن ما هو مسلّم لها ومن قبلها، كأن تسجل محطة وقود أنها قد باعت عشرة آلاف ليتر بالبطاقة الذكية، ولكن ما باعته فعلاً هو ثمانية آلاف، وقضمت ألفي ليتر نتيجة نقص الكيل، لتبيعهم في السوق السوداء، وقد ينقص صاحب المخبز /200/ غرام في كل ربطة، ما يمكنه من بيع بعض الدقيق في السوق السوداء، كأن ينقص معبئو السلال الغذائية كمية المواد الموجودة في السلة، ما يحقق لهم زيادة في أعداد السلل التي يمكنهم بيعها في السوق السوداء، وقبل فترة وجيزة تم ضبط 722 آلية نقل عام تعمل على المازوت يتم تزويدها بهذه المادة من محطات مدينة دمشق، وهذه الآليات لا تقوم بعمليات نقل المواطنين، وجزء منها بولمانات كبيرة، وباصات وسط.

إيجابيات ملحوظة ستتحقق من جراء الإجراء الأخير الذي تم بخصوص توفير بعض الوقود الحر في بعض محطات الوقود، إذ سيترتب على ذلك انخفاض سعر الوقود في السوق السوداء، ولكنه لن يلغيها، لأن الكمية المتوفرة في السعر الحر أقل من حاجة المحتاجين لها، ما يبقي حاجتهم للشراء من موجودات هذه السوق.

فالسوق السوداء من صناعة الأيادي البيضاء والياقات الزرقاء في الإدارات البنفسجية والمفاصل الرمادية، فعندما تكون كمية المازوت المخصصة للتدفئة واحدة لجميع الأسر، فمن الطبيعي أن تكون الأسرة الكبيرة في المنطقة الباردة ذات حاجة فعلية أكثر من الأسرة الصغيرة في المناطق الدافئة، ولا غرابة في أن تشتري الأسرة المحتاجة من الأسرة التي لديها  فائض، فعندما تسمح السياسة الاقتصادية القائمة بوصول كمية من المواد المقننة لغير مستحقها أو لغير مستخدمها، أو لغير محتاجيها للغرض الذي استجرت من أجله، فمن غير المنطقي أن تبقى هذه المادة مخزنة في مستودعات هؤلاء، أو أن يستهلكوها هدراً، وسيجدون مصلحتهم في بيعها لمن يعطيهم قيمتها، فكيف إذا وجدوا من يعطيهم المزيد، وسيجدها محتاجوها الفعليون مصدراً لتلبية حاجاتهم حال عدم توفرها في السوق، وطالما كانت المنفعة المتحققة متوازنة مع السعر.

بكل أسف، في ظل هذا الواقع، تبقى السوق السوداء حاجة لا استغناء عنها، إذ لا منطقية في استهلاك مادة لا حاجة لاستهلاكها من الذين استلموا مواد لا يستحقونها أو لا يحتاجونها، ولا غرابة من سعيهم لبيعها والاستفادة من ثمنها في حاجات أخرى، وسعي المحتاجين لهذه المادة من الحصول عليها منهم بسعر أخفض من سعر السوق، أو لعدم وجودها في السوق، فهل يعمل الفريق الاقتصادي باتجاه سياسة اقتصادية خالية من السوق السوداء؟.

عبد اللطيف عباس شعبان / عضو جمعية العلوم الاقتصادية السورية