الصفحة الاخيرةصحيفة البعث

الثقافة المتجوّلة

ناظم مهنا

رغم أننا نعيش في عصر التقنيات وثورة الاتصالات، إلا أن خللاً ما يكمن في بنيان ثقافة هذا العصر، مع توافر إمكانيات هائلة للانتشار والترويج لم تكن موجودة أو متوافرة في العصور السابقة، وهذا يثير الحيرة، إذ ما الذي يجعل رجلاً كسقراط مثلاً يصل إلى العالم عبر العصور حتى يومنا هذا، وهو لم يترك أثراً مكتوباً خلفه، وكل ما وصلنا عنه عبر تلميذه أفلاطون؟! وكذلك الأمر بالنسبة لبيان ماركس وانجلز المعروف بالمانفستو الذي انتشر خلال سنوات قليلة في كل مدن وأرياف ونجوع العالم، وكان له تأثيره الذي لا يستطيع أن ينكره أحد؟!.. اليوم نحن نعيش في عصر عولمة الثقافة، ويمكن للكتاب أن ينتشر خلال يوم أو يومين في كل لغات العالم، ومع ذلك ليست الثقافة بأحسن حالاتها، وفاعليتها لا ترقى إلى ما كانت عليه في تلك العصور الشاحبة والشحيحة بالإمكانيات، لماذا؟! يبدو لي أن واحداً من الأسباب يكمن في أن ثقافة هذا العصر هي ثقافة مكتبية تحمل في طياتها بذور فنائها وأثرها سريع الزوال، فنحن نلحظ أن أعظم رواية اليوم هي التي تنال الجوائز، ويتحدث عنها الإعلام، ويتلقفها الملايين من القراء، ولكن لا تلبث أن يتلاشى ذكرها خلال عام أو أقل وتُنسى، لتحل محلها رواية العام التالي، بينما القراء لايزالون يقرؤون روايات بلزاك وفلوبير وتولستوي وديستوفسكي بالشهية نفسها وكأنها روايات جديدة، فالذوق العام يفترق عن التذوق الفني ويتقاطع معه أيضاً، والثقافة بمعناها وبجوهرها تتأسس على ما هو عام وثابت ومتغير، وهي بطيئة التغير، ولا تعمل فيها الطفرات كثيراً.

فرويد، مثلاً على عكس ماركس، ينفي التطور التتابعي للثقافة، ويرى أن الوعي الثقافي لا يتغير مع تغير الوضع البشري، بل يرتكس ويتراجع، ورغم انقسام الآراء حول ذلك، إلا أن ثمة رأياً مثيراً، يمكن إطلاق صفة دعاة الثقافة المترحلة على أصحاب هذا الرأي، ومنهم الفرنسي جيل دولوز الذي يتحمس مجازياً لبدوية الثقافة، أي حالة (البدو الرحل)، أو الأدب المسافر، المتجوّل ويجده في الأدب الانكليزي، ويفتقده في الأدب الفرنسي الذي يطلق عليه صفة: “أدب المستنقعات ونقيق الضفادع”، ومن أنصار هذا الاتجاه الباحث الأنتربولوجي جيمس كليفورد الذي ركز على ما يسميه “الثقافات الرحالة” على أن الثقافة اقتحام وعبور دائم للمواقع الساكنة، ويرى أن الثقافة على عكس ما هو شائع ومعمم متحركة في جوهرها، وليست ساكنة، والمعاني الفاعلة تتولّد من قبل أناس متجوّلين في كل ثقافة يخلقون التشابكات والارتباطات بين الثقافات، هذا ما يمكن أن نطلق عليهم استعارياً صيادي المعنى في البيداء ذات الأفق المفتوح، وعليهم أن يَغيروا ويُغيّروا مكامنهم بين الحين والآخر، كبدو الصحراء وكالهنود الحمر، والذين يردون أو يعترضون بشكل جزئي على أنصار الثقافة الجوّالة، يرون أن فكرة الثقافة الجوّالة يمكن أن تكون مغرضة، وليس الأمر أنه يجب علينا أن نعكس الأولويات بين “الجذور والطرق” الثابت والمتغير، ويرون أن الإصرار على جوهر الثقافة كحركة هائمة لا تهدأ أمر ملتبس يمكن التعويض عنه إلى أن نرى “الجذور والطرق” باعتبارها متعايشة دائماً ضمن الثقافة، وأن كلاً منهما يخضع للتحوّل في سياق الحداثة العالمية.

ما نذكره هنا عن الحركة والسفر والبداوة يتجاوز المعنى الحرفي إلى رحابة المجاز واللغة الاستعارية التي هي بحد ذاتها تشكّل حركة داخل اللغة، وما أردت أن أخلص إليه هو الإشارة إلى فقر ديمومة الأدب المكتبي أمام الأدب المتجوّل في شعاب الحياة النفسية والجغرافية، ودعوة حارة لتحويل المكتبات الثابتة إلى عربات متنقلة، والخيال الخامل إلى الخيال النشط المتحفز!.