مجلة البعث الأسبوعية

الصين وأمريكا.. حرب مواقع وإعادة تموضع بوسائل غير قتالية

البعث الأسبوعية- د.معن منيف سليمان

يمثّل صعود الصين التحدّي العالمي الأكثر تعقيداً الذي يواجه صنّاع القرار في واشنطن، فهي الخصم الأكثر شراسة الذي يواجه الولايات المتحدة، كما أنها دولة تحتّم على أمريكا أن تجد سبلاً للتعايش معها، بدلاً من الدمار المتبادل بسبب امتلاك كليهما السلاح النووي. ففي التفكير الصيني يتحدثون عن كيفية محاربة العدو من دون الدخول في معركة. ومن المرجح أن تحدث تهدئة وعمل صفقة بينهما ببعض الأوقات ومن وقت لآخر, وتسخين وتبريد على بعض الجبهات. إذ أنه من الواضح أن حرباً قتالية أو باردة بين الولايات المتحدة والصين ليست مرغوبة، كما أنها ليست حتمية بالضرورة. فقد قضت طبيعة الحال على هاتين القوتين العظميين بالعمل من أجل إيجاد سبل للعيش معاً، والعمل على التوصل لاتفاقٍ بينهما حفاظاً على بقائهما.

تكاد لا تجمع مراكز الأبحاث والتفكير الأمريكية على شكل وكيفية الصراع بين الولايات المتحدة الأمريكية والصين في المرحلة المقبلة, وماهية السيناريو المرتقب للعلاقة بين الدولتين, كون أن الصين، حسب اعتقادهم أصبحت المنافس الأكبر والخطر القادم للولايات المتحدة. وأنه يجب التصدي  لها بشكل مباشر قبل أن يتفاقم الخطر.

وبناءً على ذلك يرجّح الباحثون وقوع حرب كارثية بين البلدين، متوقعة في أية لحظة، نتيجة سقوطهما في فخ تاريخي رغماً عنهما، حسب ما يرى مؤلف كتاب “حتمية الحرب” غراهام أليسون، الذي يشغل مدير مركز “يلفر للعلوم والشؤون الدولية” بمدرسة كينيدي التابعة لجامعة هارفارد، مُسقطاً 12 حالة من أصل 16، قام بدراستها، وقعت فيها حروب بين دولتين متنافستين، إحداهما صاعدة والأخرى مسيطرة، على أمريكا والصين كدولتين متنافستين حالياً، ما يجعل الحرب حتميةً رغماً عن البلدين.

ويرى الباحثون الأمريكيون في المنافسة الصينية تهديداً وجودياً، التي كان آخر فصول تطوراتها إطلاق الشركات الثلاث المشغلة لخدمات الاتصالات المحمولة في الصين، أوائل تشرين الثاني 2020، الخدماتِ الجديدة التي تستخدم تقنية الجيل الخامس G5، وهي تقنية إنترنت شديدة السرعة، عدّها متخصّصون قفزة في عالم الإنترنت، لكونها ستُدخل تغييراتٍ على الصناعة، بالإضافة إلى الأزمة الأخيرة لشركة “هواوي” الصينية.

هذا ومن المحتمل أن تصبح الصين في 2025، القوة المسيطرة في السوق الرئيسة للتقنيات العشر البارزة، بالتزامن مع زيادة قوتها وحجمها وثرائها وتقدمها التكنولوجي، إلا أنه سيصطدم حتماً بالامتيازات والمراكز الأمريكية. وفي هذه الحالة يتمثل التحدي بالصين التي يبدو أن نموها لن يتوقف ويتسارع نحو الولايات المتحدة ذات السيطرة الراسخة، سالكاً طريقاً من الممكن أن يؤدّي إلى حرب كبرى.

ومقابل هذه المراكز البحثية وباحثيها يرى بعض الباحثين أن أفضل أسلوب ناجع للتعامل مع هذا الوضع هو التفاهم مع الصين على أرضية مشتركة وخلق مساحة للاتفاق بين الطرفين.

في الواقع أن الولايات المتحدة والصين كليهما دولتين تملكان أسلحة نووية مدمّرة، وصواريخ عابرة للقارات تحمل رؤوساً نووية, لذلك من الصعب أن تكون بينهما حرب عسكرية مباشرة, وأن حرباً أمريكية – صينية عسكرية مباشرة يعني بكل بساطة هلاك الطرفين ومعهم البشرية جمعاء. ففي أعقاب أزمة الصواريخ الكوبية، تعلّم الرئيس الراحل جون كينيدي وخلفاؤه الدرس الذي لخصه الرئيس الراحل أيضاً رونالد ريغان في براعة عندما قال: ” لا يمكن أن يكون هناك منتصر في حرب نووية، ولذلك يجب ألا نلجأ إليها أبداً”.

كما أن دخول الطرفين في حرب باردة سيكون له تأثير سلبي جداً على الاقتصاد العالمي. فقد تأثر العالم سلبياً خلال الحرب التجارية بين أمريكا والصين في السنوات والأشهر القليلة الماضية. ولذلك فإن قيام حرب باردة هي خطوة غير مرغوبة من كلا الطرفين.

ولكن من جهة أخرى فإن الولايات المتحدة ستستمر في حربها الاقتصادية على الصين من أجل عرقلة نمو الشركات الصينية الرائدة, وحضورها في الأسواق الغربية, كالقيود على شركة “هواوي”, وأيضاً الصين لن تصمت وسترد بالمقابل.

وكذلك بالإضافة للحروب الاقتصادية ومحاولة تقليص تمدّد الصين الجغرافي على محيطها الإقليمي. سيستمر بالمقابل حرمان الصين من الحصول على التكنولوجيا, والقيام بمنع حلفاء الولايات المتحدة من إعطائها للصين, وأيضاً سيكون هناك حرب أيديولوجية وسياسية وإعلامية, تستخدم فيه وسائل الضغط والعقوبات والمقاطعة.

كما ستستخدم الولايات المتحدة كل الوسائل الممكنة لإضعاف الصين وشن حرب إعلامية عليها لتشويه صورتها, وربما خلق المشاكل السياسية الداخلية والخارجية للنظام الصيني, والقيام بدعم مجموعات إرهابية لتهديد أمن الصين. حتى في منطقة بحر الصين المشتعلة أيضاً بين الصين والولايات المتحدة، فإن واشنطن تستغل التوترات حول بحر الصين لفرض وجودها فقط.

بالمقابل فإن التفكير الصيني يتمحور حول كيفية محاربة العدو من دون الدخول في معركة، ومعناه استخدام الإستراتيجية والوسائل الأخرى غير القتالية، وهم يركزون على تقوية الاقتصاد، وإزالة الفوارق بين شتى أنحاء البلاد، وأن تصبح الصين دولة الرفاهية.

وتدرك بكين أنّ العالم لن يقسم نفسه إلى معسكرات أمريكية وصينية، وأن واشنطن تبنّت سياسة احتواء فعلية لمقاومة زيادة النفوذ الصيني عبر العالم ما يدفع القادة الصينيين إلى إضعاف قدرة الولايات المتحدة على عرقلة الطموحات الصينية مع أنّ الصين لا تسعى للسيطرة على العالم أو تدمير الرأسمالية وأسلوب الحياة الأمريكي، بل تسعى إلى تعظيم ثروتها وقوتها ونفوذها، خاصة بالمقارنة مع الولايات المتحدة آخذة بالحسبان أن أمريكا كانت لمدّة طويلة المعيار العالمي للثروة والسلطة والنفوذ.

إن كثيراً من الخبراء يستبعدون أية حرب بين الولايات المتحدة والصين في الوقت الحالي, لأن كلا الدولتين على رأس الاقتصادات العالمية وعلى ذروة القوة العسكرية, فهناك ردع متبادل, وأن خيار اتفاقهما ببعض الملفات أو الوصول لتفاهمات معينة أقرب من وقوع أية حرب.

وهكذا سيركز كلا الجانبين في المقام الأول على السعي إلى الحصول على مزايا إستراتيجية وهيكلية وتنافسية على حساب الطرف الآخر. لكنهما على الأقل سيبذلان الجهود لتجنب نشوب صراع عسكري صريح، لأن كلا الجانبين يدركان التكاليف الكارثية المحتملة لذلك، ولا يثق أي منهما تماماً بقدرته على الانتصار.

ومن هذا المنطلق فإن الحرب القادمة ستكون حرب مواقع وإعادة تموضع في النظام العالمي الجديد وفق خريطة التنافس بين الولايات المتحدة والصين, وتلمس كل منهما  لوضعه لموقعه الجديد في هذا العالم. وسيزداد وصولاً إلى حرب تجارية فقط مؤقتة وستنتهي وربما القبول بدفع تعويضات للطرف الخاسر أو المتضرر.

إن الجميع يحتاج علاقات جيدة مع الولايات المتحدة، ومع الصين أيضاً. فهناك فهم أفضل في جنوب شرق آسيا بأهمية وجود الولايات المتحدة لموازنة قوة الصين، مع الحاجة لكليهما، لكن لا وجود للثقة في كليهما أيضاً.

وفضلاً عن ذلك فإن الصين بحاجة للسوق الأمريكية، وهناك تداخل ما بين السوقين، وهذا لا يشبه التنافس سابقاً بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي، وفي حال تعطلت السوق الأمريكية، فإن الصين ستتأثر سلباً بها.

وهكذا قضت طبيعة التنافس على هاتين القوتين العظميين بالعمل من أجل إيجاد سبل للعيش معاً، حتى لا تموتا معاً. فقد أدرك القادة في البلدين أنهم يواجهون دماراً مناخياً متبادلاً ومؤكداً وهذا ما دفع إلى التوصل لاتفاق باريس للمناخ في عام 2015، والتنسيق بين الطرفين في المؤتمرات اللاحقة وكان آخرها مؤتمر غلاسكو في اسكتلندا منذ أسابيع.