مجلة البعث الأسبوعية

البرهان –حمدوك!! .. السودان والمعادلات الإستراتيجية في القرن الأفريقي

البعث الأسبوعية- أحمد حسن

في مطلع العقد الثاني من هذا القرن كان التوتر قد بلغ مداه بوزيرة الخارجية الأمريكية هيلاري كلينتون وهي تصرخ: “الآن وفوراً” مطالبة بتنفيذ نص الاستفتاء على انفصال جنوب السودان الذي كان موعده قد حُدد سابقاً وفق اتفاق “نيفاشا” الشهير.

 

“شدّ الأطراف ثم بترها”

الوزيرة، ومن يقف خلفها، كانوا ينتظرون بفارغ الصبر قطاف ثمار النظرية “الإسرائيلية” الشهيرة حول طريقة التعامل المثلى مع البلدان العربية غير المحاذية لفلسطين والقاضية بـ”شدّ الأطراف ثم بترها”، وكان السودان البلد العربي الكبير، والحامل الرمزي الهائل لـ”لاءات الخرطوم” الشهيرة في وجه العدو الإسرائيلي، أكبر وأقوى وأهم من أن يترك دون بتر، خاصة وأن هذه العملية ستؤدي بالضرورة إلى قلب المعادلات الاستراتيجية في القرن الأفريقي كلّه، وكان السودان قد شُدّ كثيراً جداً حتى تلك اللحظة سواء بالحروب الداخلية والمجازر العرقية والاتهامات بدعم الإرهاب أو بتغوّل الاستبداد والفساد الداخليين فيه.

وبالطبع لا مكان هنا لسؤال ساذج من قبيل لماذا السودان؟، ففي العالم السياسي الحقيقي والواقعي هناك نظرية بسيطة فحواها “كلما زادت قيمة المصالح والعائدات المتوقعة زاد التكالب الدولي على البلد المعني”، والسودان، كما يعرف الجميع، بلد يعوم على بحر من الثروات الباطنية المتنوعة، التي يسيل لها لعاب القوى الكبرى، لكنه وهذا الأخطر يبدو في المنظار الغربي والإسرائيلي أكبر مما يجب كي يبقى دولة موحدة، وبالتالي من الضروري الهيمنة على ثرواته ومقدراته وقراره السياسي، وهذا لا يمكن أن يتم إلا عن طريق تفتيته وتجزئته إلى دويلات وكانتونات متجاورة مأزومة داخلياً، ومتنافسة فيما بينها، ما يعني، بالمحصلة، حالات انفصال متتالية أو حالات مزمنة من عدم الاستقرار التي لن تسمح له الاهتمام بأبعد من بيته الداخلي وقضية الحفاظ على السلطة والحكم المركزي.

 

مركز “ديان للأبحاث”!!

وكي لا نخطأ التحليل فتلك لم تكن مؤامرة سريّة رتبت بليل، بل مخططاً علنياً لإسرائيل ومن يقف معها استفاد بصورة رئيسة من أخطاء الداخل، وفي هذا السياق، سياق العلنية، لا بد من إعادة التذكير بدور اللوبي الإسرائيلي في أميركا الذي شكّل تحالفاً حمل اسم “إنقاذ دارفور”!!، ضم في عضويته أكثر من 150 منظمة يهودية أميركية إضافة إلى بعض المنظمات التابعة لليمين المسيحي الصهيوني الأميركي، فضلاً عن أعضاء وشخصيات يهودية ذات نفوذ في بعض الأحزاب الأميركية والكونغرس الأميركي.

وفي السياق ذاته من المهم الإشارة إلى دراسات أجرتها اسرائيل مطلع هذا القرن لتحديد معالم “اسرائيل بحدود عام 2020″، وقد خلصت هذه الدراسات إلى أن ضمان أمن حدودها ونجاحها التقني والاقتصادي بحاجة إلى تعزيز التعاون مع الدول الأفريقية وإقامة تحالفات إقليمية معها، ومعاقبة الرافضين.

وفي كتاب أصدره مركز “ديان للأبحاث” بعنوان “اسرائيل وجنوب السودان” تفاصيل مذهلة حول الأصابع الاسرائيلية في مشاكل السودان عموماً وجنوبه خصوصاً، كل ذلك بهدف تسعير الاضطرابات السياسية والانفلات الأمني الأمر الذي يجعل السودان أكثر انكشافاً أمام الرياح الخارجية العاتية.

وكان الإصرار على هذا “الانكشاف” الدافع الرئيس للدعم الغربي الكبير لاستفتاء الانفصال.

 

قضية “جون قرنق”

في الطريق إلى تلك اللحظة المفصلية من تاريخ السودان كان قد سقط الكثيرون ومن أبرزهم “جون قرنق” الزعيم الجنوبي السوداني، وكانت “مشكلته” تتمثل بأنه ورغم صراعه المرير مع الشمال إلا أنه، وخاصة في لحظاته الأخيرة، كان يبحث عن حل في الخرطوم وضمن السودان الموحد، وهذا خطأ كبير في المنظور الإسرائيلي –الغربي، وكانت حياته الثمن فقضى في “حادث” طائرة غريب لم يجر كشف كل حقائقه حتى الآن، واستلم سدة القيادة بعده عتاة الانفصاليين الجنوبيين.

ويوم الاستفتاء كاد الرئيس الأمريكي “باراك أوباما” أن يشارك شخصياً في التصويت، وكانت مفارقة حينها أن يجد هذا الرئيس المثقل بالأزمات والتحديات، من حربه الخاسرة في أفغانستان، إلى “حربه” المقبلة في الانتخابات النصفية والتي كانت الدلائل تشير إلى صعوبة وضعه فيها، وجد هذا الرئيس شخصياً فرصة ليهتم بالسودان وقضية استفتاءه وليحذر من سقوط ملايين القتلى، وليس الآلاف مثلاً، إذا لم يتم استفتاء الجنوب في موعده.

والنتيجة التي نعرفها جميعاً كانت احتفالية إسرائيلية كبرى، فالسودان سلة العرب الغذائية والدولة العربية الكبرى على الضفة الغربية للبحر الأحمر وبشعبه المساند لفلسطين وقضيتها ورمزية عاصمته الخرطوم في مساندتها كان قد أصبح بعد تقرير الانفصال رسمياً أضعف بكثير من ذي قبل.

 

نهاية قصة البشير ..بداية اتفاقات “ابراهام”

عام 2019 كانت ورقة الرئيس “عمر البشير” قد سقطت بالنسبة للغرب، فالرجل قدم أكثر ما يستطيعه واتهامات الجنائية الدولية تكبله وتمنع من إعادة تأهيله دولياً، فيما قطار اتفاقات “ابراهام” يصفر مستعجلاً صعود هذا البلد العربي الكبير إلى عرباته وكان الحل بانقلاب عسكري وجد في ثورة الشعب السوداني درجاً مناسباً للصعود إلى هذا القطار ونقل السودان نهائياً من ضفة إلى أخرى في الصراع المرير على مستقبل المنطقة وشعبها، وكان من الطبيعي، في هذا السياق، أن يعتمد الانقلاب، ورجاله، على الأمريكي الذي لوح لهما بورقتين داعمتين أولاهما “شيكات” البترودولار العربي، وثانيهما مفتاح جنة “المجتمع الدولي” وورقة “براءة” أممية من كل الدماء التي أريقت -وكانوا شركاء أساسيين فيها- على طريق وهم السلطة المتفرّدة للبشير، وأسلافه، وأعقابه، المعروفين.

بهذا المعنى يبدو اتفاق البرهان –حمدوك اليوم، بكل ظروفه ودلالاته، مجرد لحظة في هذه المسيرة السودانية الطويلة وإن كانت هذه المرة برعاية مباشرة من “جيفري فيلتمان”، مهندس “ثورة الأرز” الشهير، والذي كان للصدفة”!! آخر من التقى “البرهان” قبل انقلابه الأخير على “حمدوك” ذاته، وحينها اعتبر “فيلتمان” الخطوة الانقلابية كعلاج مطلوب لأمراض “العملية الانتقالية” الشهيرة التي اتفق عليها العسكر والمدنيين، لكن ومع ضياع “البرهان” في تلمس خطاه بعد الانقلاب وتزايد الانتقادات الدولية لخطوته، وعدم استعداد أحد في العالم لتحمّل تكاليف انفجار الوضع في السودان، واحتمالات انهيارات أوسع تتجاوزه إلى ما حوله في القرن الأفريقي وعند منابع نهر النيل في إثيوبيا التي تقف على حافة هاوية التقسيم، يبدو أن “فيلتمان” تراجع هنا خطوة للوراء ليدعم صورة “حمدوك” واقفاً ولكن لوحده، ودون حاضنته السياسية، بجانب “البرهان” ليمنحه صك تصحيح وتشذيب مسار انقلابه كلافتة مدنية لا يوجد سواه ليقدّمها “حقناً”، كما قال، “لدماء السودانيين، وحفظ البلاد من الانزلاق إلى فوضى محتملة”.

التغريبة المستمرة

“تغريبة” السودان مستمرة ويبدو أنها باقية وتتمدد مع بعض “الروتوشات” التجميلية هنا وهناك. صورة حمدوك-البرهان مثالاً بيناً حتى لو تغير اسمي الرجلين الواقفين مكانهما لاحقاً في لعبة “فليتمانية” جديدة. الاعتداءات الاثيوبية الأخيرة على السودان مثال آخر، والأمثلة كثيرة جداً وقادمة أيضاً.