مجلة البعث الأسبوعية

رياض صالح الحسين: كتب نصوصه كمن ينقش بإبرة محماة على جدران الجلد الحي

البعث الأسبوعية- جمان بركات

“قصر العمر لا يحد من كمية الإبداع” لعل هذا الكلام ينطبق على الكثير من الحالات الإبداعية، ويحضرنا في هذه الأيام اسم مبدع شعر النثر، صاحب النصوص المختلفة بإبداعها، والمتفق عليها بإعجاب كل من قرأ “خراب الدورة الدموية”، رياض الصالح الحسين كتب نصوصه كمن ينقش بإبرة محماة على جدران الجلد الحي، كتب نصوص تتفجر فيها المشاعر للمتلقي بين الانكماش من شدة قوة الكلمات وقسوتها أحياناً وبين التحليق معها في بحر من المعاني الجميلة، والمثال مقطعه: “أكسر بالحصى مصابيح عينيك- وأفترش صخرة العتمة- أحلم أن يدي نهاران- ورأسي شجرة ليمون- وجسدي مزرعة للعدس”

كان الشاعر الراحل رياض صالح الحسين تماماً كما عنوان أحد نصوصه “بسيطُ كالماء.. واضح كطلقة مسدس”، وكان كالوصف في قصيدته كتابة: بريشة من عظام وحبر من الطمي- يكتب على جدران قبره- قصائد وروايات وقصصاً- قصائد عن الحب.

رياض الصالح الحسين صوت شعري أنيق كان مقدراً له أن يحتل مساحة في خريطة الشعر، شعر النثر الذي أجاده بعبقرية فريدة تقديمه على مر سنواته القليلة وجعله شاعراً مميزاً جميلاً، تحدى صممه وبكمه ليكون نثره الذي يكتبه سمعه ولسان حاله، لكن رحيله المبكر حرم عالم الشعر من قصائده السحرية.

وعلى رغم من مرور أربعين عاماً على رحيله إلا أن قصائده مازالت حاضرة، ومازال حاضراً في ذاكرة أصدقائه وأحبائه وبالتأكيد عائلته، فكان للبعث الأسبوعية هذا الحوار مع أخيه أكرم  صالح الحسين الذي حدثنا عن حياة أخيه الشاعر.

 

السبّاق

بدأ أكرم صالح الحسين حديثه عن بدايات أخيه الشاعر رياض حيث قال:

كانت أولى تجاربه الشعرية في عمر صغير نسبياً لم يتجاوز 15 أو 16 سنة، وجاء هذا الشيء نتيجة محبته للقراءة والشعر، كان من الناس الذين تعبت كثيراً على نفسها، وخاصة أنه ترك المدرسة مبكراً، فحاول أن ينمي موهبته من خلال المطالعة والاطلاع على ما يكتبه الشعراء الاخرون.

حاول في بداياته أن يكتب القصيدة العمودية وقصيدة التفعيلة، لكنه استقر بعد فترة بسيطة على قصيدة النثر، وهي القصيدة التي أحس رياض أنها قادرة أن تعبر عن شخصيته وعما يجول في خاطره، فكان لقصيدة النثر أهمية كبيرة بالنسبة لرياض خاصة أنه اطلع على أعمال كثيرين ممن كتبوها إن كانوا عرباً أو سوريين أو غربيين، فكان سباقاً لإيجاد صيغة جديدة أو إعطاء شكل جديد للقصيدة النثرية من خلال الشيء الذي يقدمه.

الشعر والصدى

يقول أحدهم: “عرفت رياض صالح الحسين فأدركت كيف يكون الشعر بسيطاً ورحت أفتش عن سيرة رجل أحب أن يحصي عمره بالحب وحبات البرتقال، وعن شعره تابع أكرم: من يتأمل حياة الشاعر السوري يجد شعراً يبدو بسيطاً كماء صاف بلون زرقة السماء، ويجد حياة صعبة ومؤلمة كطلقة مسدس أصابت هدفها فنزف، شعر رياض يشبهه بينما حياته تشبه قسوة شخص آخر، شخص لم يحاول أن يجلس بجواره على المقعد الشاغر.

أنجز في حياته ثلاث مجموعات شعريّة هي “أساطير يومية” و”خراب الدورة الدموية” و”بسيط كالماء واضح كطلقة مسدس”، وأنجز بعد رحيله مجموعةً أخيرة وحضوراً يكاد لا يضاهيه حضور أيّ شاعر آخر في ذلك الوقت “وعل في الغابة”.

منذ إصداره ديوانه الأول انتشر في الأوساط الأدبية وبين الشعراء والكتاب، وتحدث عنه الكثيرون في تلك الفترة على أنه حالة جديدة من الشعر تطرح، كانت في تلك الفترة القصيدة النثرية جديدة نسبياً في البلاد العربية أو بالنسبة لسوريا تحديداً، فوجد القراء والمثقفون وأصحاب الاهتمام بالشعر والقصيدة شيئاً جديداً يطرح من خلال قصائد هذا الديوان، وبدأ رياض بعد ديوانه الأول يظهر كشاعر له مكانته الخاصة ضمن من يكتبون قصيدة النثر، حيث تميز بالروح الجزلة والشفافة واختص بإضفاء روح جديدة وخط جديد لقصيدته كان له الأثر في خلق حالة جديدة والتميز بين من يكتبون.

عالق في الأذهان

من عرف رياض كصديق لن ينساه أبداً، ومازال أصدقاؤه أوفياء له وفي كل ذكرى لرحيله يتحدثون عنه وعن أيامهم معه، وعن هذه الصداقة قال أكرم صالح الحسين: تحدثت للكثير من أصدقاء رياض القدامى بينهم نذير جعفر وحسان عزت، منذر المصري الذي كان له صديقاً حميماً، وخليل صويلح الذي كان مقرباً منه جداً، حتى الأصدقاء الذين عرفوه لفترات بسيطة أو معرفة عادية.

كان مخلصاً لأصدقائه في محبتهم يتعامل معهم بشكل جميل فيثقون به سريعاً، رغم مرور كل هذه السنوات مازال الكثيرين منهم يتذكرون رياض ويتذكرون الأيام التي جمعتهم به، ساعات جميلة ورائعة كانوا يقضونها معاً إن كان في سهراتهم الخاصة أو أمسياتهم الشعرية أو في المقاهي التي كانوا يجلسون فيها يتحدثون عن الشعر والأدب.

رياض عالق في أذهان من حوله، وتبقى ذكراه موجودة في النفوس والقلوب والعقول، وأنا منذ عدة أيام بمناسبة ذكرى الأربعين لرحيله أقمت ندوة جمعت الكثير من الأصدقاء والأحبة الأوفياء لهذا الشاعر الذي رحل منذ زمن، وكانت على ما أعتقد ندوة ناجحة جداً من حيث وجود الكثيرين ممن أحبوا رياض وحتى من أصدقاء افتراضيين تعرفوا عليه من خلال أعماله وكتاباته التي قرواها بعد هذه السنوات.

الأنسة سين

كان رياض يمتلك قلباً كبيراً جداً، قلباً قال عنه الكثيرين بأنه مميز، وعن قصة الحب التي عاشها الشاعر رياض قال أكرم: بدأت علاقته بالحب عندما تعرف إلى الأنسة “سين” وكان وقتها في بداية حياته الشعرية، وكان للأنسة “سين” نصيبها الجيد من قصائد رياض التي عبر فيها عما يجول في قلبه ورأسه من أفكار وكانت هذه القصائد هي بمثابة وثائق عما يجول في قلبه من مشاعر وأحاسيس مرهفة، وصف من خلالها علاقته بالأنسة “سين” والحب الذي جمع بينهما والذي انتهى بعد فترة لأسباب لا أحد يستطيع أن يعرف ماهي بالضبط.

“تحب الماء والرحيل.. كان شعرها يتطاير مع الريح كالعصافير الخائفة.. ويداها زهرتان حول عنقي.. كانت تحب غرفة صغيرة في قطار.. كانت أيضاً تحب الأعياد والأطفال كان اسمها: س.. ضفيرتان من أوراق البرتقال والملمس الناعم تحب الرمل، والقبلة وتحبني”.

رياض كان شخصاً محبوباً جداً من النساء، وهذا ما قاله لي أصدقائه المقربون، كانت السيدات تتمنى أن تكون على علاقة حب به، وجاء هذا الشيء لما يملكه من إحساس خاص ومشاعر جياشة.

“أما أنا، فسأبحث عن كوخ للزواج، فالأمر أصبح جدياً، والطفل يقرع الجدران”، رسالة من رياض إلى صديقه منذر المصري في عام 1982.

أَحبَّ رياض هيفاء أحمد، وكانت آخر علاقة له، وكانا يتحضران للزواج ولكن شاءت ظروف معينة أن يفترقا، فغرق رياض في همومه وتدهورت حالته الصحية ولكنه لم ينس أن يهدي ديوانه الأخير “وعل في الغابة” لها، وهاجرت هيفاء إلى مكان لا أحد يعلم به.