ثقافةصحيفة البعث

القدود الحلبية تحتفل مع اليونسكو بانتصار حلب

حلب – غالية خوجة

ما أسرار القدود الحلبية لتشكّل علامة فارقة في الذاكرة الثقافية الفنية العالمية ومستقبلها، خصوصاً وأن اليونسكو أدرجتها على لائحة التراث الإنساني؟

لقد جاء تاريخ هذا الإدراج موازياً لحفل تأبين الراحل صباح فخري في حلب التي لن تنساه، وقريباً من الذكرى الخامسة لانتصار حلب على الإرهاب الكوني، لتضيف انتصاراً دولياً جديداً، ساهمت فيه عدة جهات منها وزارة الثقافة والأمانة السورية للتنمية التي نظمت احتفالات بهذه المناسبة، منها احتفالان مركزيان متزامنان، بين دمشق في ساحة الأمويين وحلب في خان الشونة، وذلك من خلال إسقاط ضوئي في محيط مكان الاحتفال، مع عرض فيديو إعلان النتيجة وفيديو ترويجي حول القدود الحلبية، وفقرات موسيقية عن القدود، وعرض لرقص المولوية في حلب، وعرض راقص لفرقة جلنار على أنغام القدود الحلبية في ساحة الأمويين بدمشق.

المايسترو عبد الحليم حريري لفت إلى أن القدود الحلبية أقدم تراث لامادي غنائي تعرفه البشرية، ويفوق عمره أكثر من 1800 سنة، والولادة المتعارف عليها أن أفرام السرياني بدأ في “قد” تراتيل مسيحية على “قد” أغانٍ شعبية محبوبة ومعروفة، و”على قد” تعني مثلها، وزناً وضبطاً إيقاعياً ولحناً، تتغيّر فيه الكلمات فقط من غزلية إلى دينية، أو بالعكس، كما استخدم المسلمون وأهل المنطقة الأسلوب ذاته، كونهم كانوا يمارسون هذا الشكل الفني، ويغيّرون الأغاني التراثية إلى أغانٍ وأناشيد دينية، وبالعكس، وهذه الكلمات بالقافية والقفلة وحرف الروي يغيرها الشعب العادي في سهراته ومناسباته الاجتماعية لا الشعراء، والقد عبارة عن جملة واحدة، لكنه يغنى ضمن سلسلة “وصلة”، كل “قد” له لحن متغير عما قبله، لكن في المقام ذاته، يُغنى المقام ببساطة، بخمس أو ست علامات لا أكثر، وهو محبّب للشعوب وذاكرتها، والقد الحلبي جزء من الذاكرة الجمعية في المنطقة، أطفالاً وكباراً ومسنين، وهذا مستمر ومتواتر، ونحن نفتخر بهذا الانتشار الذي أصبح من الثقافة الفنية العالمية.

بدوره، رأى الكاتب الباحث عبد الفتاح قلعه جي هذا الإدراج نصراً عظيماً لسورية التي تأخذ موقعها على التراث العالمي منذ القدم، لأن “القدود” من المدرسة الغنائية الحلبية التي حققت جزءاً من مهماتها في تقديم القدود الحلبية لهذه اللائحة، وهذه المنظومات الغنائية الشعبية ذات السيرورة الكبيرة تمّ الحفاظ عليها عبْر القرون، ويمكننا اختصار تعريفها بأنها غنائيات جاءت على وزن وإيقاع موسيقي قديم، هناك “القد” بشكل عام وهو حلول أغنية شعبية في نص جديد لا يختلف عن الأول، وهناك ما نسميه “القد الموشح”، والقدود الحلبية هي من هذا النوع وهي موشحات بسيطة ازدهر نظمها على يد شعراء عديدين منهم أمين الجندي والرفاعي والوراق، هناك منظومات فلكلورية غنائية حُمل لحنها إلى أغانٍ دينية، وبالعكس، أي تناسُخ للحن الذي هو روح الأغنية إمّا من الديني إلى المديني، أو من المديني إلى الديني، مثال ذلك “عليك صلى الله يا خير خلق الله” حوفظ على نغمتها “الحجاز” ونظمتْ عليها الأغنية المعروفة “هالأسمر اللون هالأسمراني”، ومنها مثلاً “يا إمام الرسْل يا سندي” نظم على لحنها “قدك المياس”، و”تحت هودجها”، القدود روح وشخصية وهوية وبصمة مثلها مثل المنظومات الغنائية لدى الشعوب الأخرى.

ورأى د. فاروق أسليم كيف أن لثقافة كلّ شعب عريق خصوصيّة ثقافيّة ملازمة لمفهوم الوطن، ومن الطبيعيّ أن تكون للسوريّين معالم عديدة لخصوصيّتهم الثقافيّة فنّياً وجماليّاً، ومنها القدود الحلبيّة كفنّ موسيقيّ وغنائيّ وأدبيّ فائق الخصوصيّة في انتمائه إلى حلب التي لا يكتمل طرب أطفالها وكبارها إلّا بالقدود الحلبيّة المطربة لدرجة السحر والاندهاش، ولها تأثير جماليّ يتجاوز المجال السوريّ والعربيّ، ويشكل هذا الإدراج اعترافاً حضاريّاً بجانب من خصوصيّة الثقافة السوريّة، وسعادةً للسوريين والعرب، ويحظى بتقدير كلّ محبّ لسورية، وأتوجّه بالتقدير لمن أخلصوا لهذا الفن، وفي مقدّمتهم الكبير الراحل صباح فخري، ولمن بذلوا الجهد في هذا المجال، وأخصّ بذلك وزارة الثقافة والأمانة السورية للتنمية.

وأكد الباحث محمد قجة على الجهد الذي بذلته القدود الحلبية لتتمكّن من اجتياز العقبات والوصول إلى لائحة اليونسكو كجزء مهمّ من التراث الإنساني الثقافي غير المادي، فحلب فيها كثير من الأمثلة التي يمكن أن تندرج في هذا المقام مثل المطبخ الحلبي والأمثال والزوايا الصوفية، إلى جانب عمقها التأريخي الممتد لآلاف السنين الذي تناوب فيها هذا الفن، ولذلك، فإن هذا التسجيل والتوثيق اعتراف بالقيمة الفنية والثقافية لمدينة حلب التي كانت الوريث الطبيعي للموشحات الأندلسية، وقيض لذلك زوايا صوفية وتكايا أبرزها الزاوية الهلالية التي طوّرت هذه الموشحات والقدود بين قد عاطفي وقد ديني، ورأينا شخصيات كثيرة جداً، ومنذ حوالي 400 سنة، ثم الجيل الذي عرفه القرن الـ 20 مثل محمد خيري، صباح فخري، بكري الكردي، عمر البطش، علي الدرويش، وتظل القدود الحلبية ظاهرة فريدة تميّزت بها حلب المدينة ذات المركز الثقافي العريق منذ أيام الفارابي في بلاط سيف الدولة.

وأكد المهندس نور خوجة على قيمة هذا التراث اللامادي العالية جداً والمهمة للإنسانية واحتفاظ اليونسكو بالقدود الحلبية كذاكرة للأجيال القادمة، خصوصاً، ما سمعوه من صباح فخري، بينما هناك غيض من فيض في هذا المجال، وأتمنى، ودعماً لهذا التراث وتقديراً لقيمته، أن ندعم الفنانين المتابعين لهذا الفن، وأن نبحث عن رجالات هذا الفن السابقين لتعرفهم أجيالنا الجديدة من خلال المحاضرات والندوات والحفلات.