رأيصحيفة البعث

العدوان “الإسرائيلي”.. أبعاد ومآلات

أحمد حسن

قبل أكثر من قرن، وتحديداً عام 1905، وفي نبوءة مبكرة ومدهشة في الآن ذاته – سبقت بسنوات عدة “سايكس بيكو” و”وعد بلفور” ذاته – حذّر “نجيب عازوري” من خطورة الصهيونية على مستقبل المنطقة العربية والعالم، حين كتب ما حرفيته: “في الوقت الذي تشهد فيه المنطقة حركة نهضة عربية يسعى اليهود لإقامة مملكة إسرائيل، وقد كُتب على هذين الطرفين أن يخوض كل منهما صراعاً مريراً ضد الآخر دون توقف، إلى أن ينتصر أحدهما على الآخر، وستحسم النتيجة النهائية لهذا الصراع مصير العالم بأسره”.

الأحداث اللاحقة منذ ذلك التاريخ وحتى اليوم أثبتت صحة هذا القول، النبوءة، سواء في مقدماته أو نتائجه، فما يحدث اليوم، وقبله أيضاً، هو أحد تداعيات هذا الصراع وارتداداته، فقوبل مثلاً المد التحرري العربي بعد حرب تشرين بسحب مصر، الدولة العربية الكبرى من الصراع، وإغراق لبنان، بصفته مركزاً للمقاومة، بالحرب الأهلية، وزُج العراق بحرب مجنونة مع ايران التي كانت قد أعلنت انضمامها لصف الدول الرافضة للمشروع الغربي، والأهم استعرّت عمليات مذهبة القضايا وتطييفها بهدف تمييعها عبر عملية مستمر لكيّ الوعي الوطني وتغيير البوصلة الشعبية، فبدل أن يكون الصراع كما هو حقيقة على “الماء والكلأ والنفط”، وبين قاتل وضحية، روّج له بعناية بالغة ليستعيد أحياناً “داحس والغبراء”، ما يسمح لتل أبيب، وقد حدث هذا، بالدخول، كـ “دولة” طبيعية، حليفة لطرف ض طرف، وبالطبع انصب هذا كله في خدمة مشروع “مملكة إسرائيل”، لا حركة النهضة العربية.

والحال فإن هذا “المشروع” هو نتاج توجه أوروبي فاجر، ورثه الأمريكي لاحقاً، أراد من جهة أولى الخلاص من اليهود والتطهّر من الجريمة التي ارتكبها بحقهم – وحق سواهم من شعوب العالم بأسره – وأراد، من جهة ثانية، خدمة لمشروعه الاستعماري، مخفراً متقدماً في شرق المتوسط ليسيطر بالكامل على مقدرات المنطقة وما وراءها، وهما بالتالي، أي الأوروبي والأمريكي، شركاء أصليون في ارتكاب جريمة أفدح بحق الفلسطينيين والعرب والمنطقة والعالم بأسره.

بهذا نفهم صمت الغرب الدائم عن جرائم إسرائيل وتغاضيه عن أسسه الديمقراطية لأجلها – ساسة بريطانيا تغاضوا عن مبدأ فصل السلطات المقدس وضغطوا على السلطات القضائية كي لا تحاسب مجرمي الحرب الإسرائيليين – كما نفهم صمته عن تجسّسها السافر على دولهم ومسؤوليهم ومواطنيهم، بل وقتلها لبعضهم -الكونت برنادوت، بحارة السفينة “ليبرتي”، وراشيل كوري – على اختلاف جنسياتهم الغربية وتعددها.

بيد أن ذلك كلّه، وإن بدا عصياً على المواجهة، إلا أنه لا يبدو راسخاً على أرض مستمرة، فالمشروع الغربي الإسرائيلي وإن بدا ناجحاً حتى الآن، إلا أنه يعرف في قرارة ذاته أن ذلك أمر مؤقت، ما دامت “الضحية” العربية عصيّة على الاستسلام، وما دامت اتفاقيات السلام مع الأنظمة العربية، لم تؤمن لها حتى اللحظة قبولاً شعبياً كاملاً، وما دامت حركات المقاومة ودولها قد أثبتت، في الميدان، أن إسرائيل، في حقيقتها، أوهن من بيت العنكبوت.

بهذا المعنى نفهم ارتفاع مستوى التوتر الحالي في “إسرائيل” سواء في موقفها من الاتفاق النووي ومفاوضات “فيينا”، أو، وهذا الأهم، في عدوانها المتكرر على سورية – أصالة عن نفسها ووكالة عن الخارج باعتبارها “مخفره” المتقدم – والذي تزداد وتيرته وحدته واستهدافه للمراكز الحيوية السورية بالتزامن مع استعادة الدولة لعافيتها.

بهذا المعنى، أيضاً، وأيضاً، نفهم موقف الجميع خصوماً وأشقاء من العدوان، فيصبح “مفهوماً” مثلاً امتناع “الأشقاء” عن إدانة العدوان واستخدامهم لتعبير الغارات بدل توصيفه الحقيقي، ويصبح الدعم الأمريكي العلني أكثر من “طبيعي”، وكذلك يصبح ما يبدو كـ “تغاضٍ مزعج” لـ “بعض” الحلفاء “مفهوماً!!” في سياقه الأوسع، فالدول الكبرى ليست جمعيات خيرية وتحالفاتها لا تعني “أخوّة لا يفرقها إلا الموت”، وعلاقاتها مزيج معقد من التطلعات والمصالح والإرادة، والقدرة أيضاً، في سياق صراع معقد ومتعدد كالصراع الدائر في سورية وعليها، والذي يعرف الجميع أن نتيجته النهائية ستؤثر على مواقع دول وترتيبها ومستقبلها في النظام العالمي القادم.