ثقافةصحيفة البعث

خالد أبو خالد.. سيرة مثقف شجاع

أحمد علي هلال

في دمشق.. هو حديثُ الشعر رؤيا، وحساسية الجهر بقضية تضارعُ (عدلها الشريد)، سليلُ القساميين، كما الشعر سلالته، ليكون المتعدّد بأسمائه كلها، الواضح، الممانع بحق، لكنه الأثير بنكهة مواويله والميجانا، وطلاوة النشيد الوطني. هو من اجترح من اللغة وطناً، لا منفى وجدل كينونته –القسامية – أسفاراً قبضت على زمنها واخترقته، ليقول الشهيد للشهيد: إنا حديث أبدية طالعة من هناك، نقش سماوي على جدارية الهوية والمكان، لتنتصر اللغة وطناً مستعاداً، بطلقات الروح وبرقم «العوديسا» من أزمنة اللجوء إلى أزمنة الخيول النافرة، ومن أزمنة الجراح المفتوحة – كمدن – إلى أن ترث الأرض كلها ملحها، مخضباً بفضة الأرواح العالية.

وظلّ المحارب ينشد للفجر والينابيع التي تنبجس من مراقد الشهداء، عابراً كل أزمنته القصوى وتخوم القصائد، الغناء، ليعطر السيف الدمشقي بحناء «سيلة الظهر» ناهضاً من أزمنة الشوك والملح والتيه ليكتب سطراً كثيفاً في مدوّنة يتعاشقها المجد ظلّ اسمها دمشق، العائد والمتهجد، الحالم، الرائي، بما يكفي وردة من دمه، تصير غابة من الأيائل، ودوحة من كثيف الشعر والحياة، فكم اختبره –الموت- ونازله، ليشطر مرارته بعناد الصوت والصمت، ليقول: أنا الأرض، ومن يرثها سواي، فأنا من جبّلتُها جرح وناي، وذات بلاد تقوم عشية الميلاد، صّبَ الفدائي قلبه في محبرة الجمر ونهض ممتلئاً باسمها –فلسطين- كل الأسماء من صليب الوقت والانتظار والصمت، ليدوّن «كتاب الشآم»، معتقاً جرح اللغة، وساهراً في أعاليها نجمة تتدثر بالغمام، وتسرد بالضوء حكاية وطن، وفي الشعر تاريخ ما نسيه التاريخ، المتبقي لنا، ونحن نحتطب في نبضها –أرواحنا-.

صاعداً غده، ذلك المحارب الأثير وساماً على صدر القصيدة تلك نبوءته العتيقة، يرسم بالكلمات ويلوّن بحبر الروح، يفيض بجدارياته، المعلقة –كشواهد- على رحلة الفلسطيني التراجيدية في المكان والزمان واللغة، الفلسطيني العائد لا محالة، بألف يقين مشرق ظلّ صراط المحاربين، في صحو وعيهم واللغة الطليقة.

خالد أبو خالد.. في أفعاله الكاملة، أسفار الجسارة، وضراوة التشكيل بالنبض والنص، واللون السارد لأمثولة البقاء، كحال أجياله شركاء السيف والقلم، الذين افترعوا لنا عشقاً لا يتكرر، ينادد أزمنته ويلهم السيرورة، بأن تستمر ذاكرة طازجة الاشتهاء لمواسم العبور النبية.. فخذوا نشيده بقوة، بما يفوق أساطير نسيناها، بالجليل والمثلث والنقب، وامتداداً لدالية الأغاني، وجراح القلب، فكم أولم روحه لتستمر –الكلمة- مهمازاً للحقول والسهول، البر والبحر والساقية، والجدول المجدول من شهقة الماء، ونشيج الخلاص، هو القصيدة أو أكثر، حينما تطلّ أو تريد، أو أن تذهب في إثر مغنيها، في إثر هسيس الماء، أرواح من عبروه.

هو الصوت الصارخ في البرية: «بالدم نكتب لفلسطين والوطن العربي»، وكان دمه/ حبره، وحبره الدم، وقوفاً وقوفاً، تلك كلمته والبيان، تأسيساً ونهوضاً، واستنهاضاً يليق بحادي النصر وصائغ قلائده البهية، هو في تمام صيرورته، سنديان كثيف الظلال يزنر القلوب والكلمات، وطناً من قساوة الجرح وضراوة النصر.

وقوفاً.. وقوفاً، وتستمر القافلة بتمائم الورد والدم، بالتلويحة الوداع/ اللقاء، يا سيد الغياب/ الحضور، لك الرمح وما تشاء أقاصيه، ولنا أن نشهر حضوراتك كلها، في وطن الشمس والبقاء فلا نامت عين اللغة، ولا فرّ من صلصالها ألم بصير، أيها الإغريقي الأخير.. هللويا.. هللويا.