ثقافةصحيفة البعث

حين يُشيّع المثقف افتراضياً!!

في الثّالث من شباط من عام 1975 توفيت كوكب الشّرق “أم كلثوم” عن عمر يناهز السّادسة والسّبعين، وشُيّعت بجنازة مهيبة بلغ عدد المشاركين فيها وفق ما سجلت وذكرت وسائل إعلام مصرية المليون وفي وسائل أخرى أربعة ملايين حول العالم. وفي الثّلاثين من شهر آذار من عام 1977 تُوفي العندليب الأسمر عبد الحليم حافظ وشّيع بجنازة تجاوز عدد المشاركين فيها المليونين ونصف المليون، واشترك في تأمينها وتنظيمها نحو الأربعة آلاف من رجال الأمن، وتذكر وسائل إعلام مصرية أيضاً أنّ نائب وزير الدّاخلية آنذاك أشرف بنفسه على الاستعدادات وترتيبات الجنازة، طبعاً لن نتحدّث هنا عن عدد الفتيات اللواتي انتحرن حزناً على رحيله ولا عن نوبات الاكتئاب التي تعرّض لها عشّاقه ومحبيه لسنوات عدّة، وفي الثلاثين من نيسان من عام 1998 توفّي الشّاعر نزار قبّاني وشيّعته دمشق أيّما تشييع.

ثلاثة أمثلة عن الخسارة في الثّقافة العربية والفنّ العربي رافقها تشييع مهيب في وقت لم تكن وسائل التّواصل متاحةً بهذا الكمّ الذي نشهده اليوم، واقتصر نقل الخبر حينها على ثلاث وسائل فقط كانت كفيلة بنقل أخبار مهمّة كهذه إلى كلّ مثقف، وهي صحيفة كان عليه أن يقطع مسافةً طويلة لشرائها، وإذاعة كي يسمعها جيّداً أو يضبط تردّدها، كان عليه أن يلصق أذنه بها ويحاول جاهداً أن تسمع الأخرى، أمّا الثّالثة فشاشة صغيرة توفّر عليه البحث والحيرة والتنّقل بين آلاف المحطات كي يرى الخبر من “وجوهه المختلفة”.

كان الرّحيل والفقد كبيراً، وكان التّشييع من قيمته، وكان المشيعون صادقين في حبّهم وحزنهم، أمّا اليوم ومنذ عشر سنوات تزيد أو تنقص قليلاً فقد رحل عنّا الكثير من المثقفين والأدباء والفنانين في مختلف المجالات تاركين إرثاً لم يقدّره البعض ولم يخلص له البعض الآخر، ولاسيّما أولئك الذين كانوا يدّعون الصّداقة وتباهوا بها على صفحات التّواصل الاجتماعي على اختلافها وتعدّدها وتوافرها.

نعم هكذا بات تشييع المثقف والأديب لأصدقائه الرّاحلين منشوراً على صفحات الـ”فيسبوك” يتشاركه الجميع (قصّاً ولصقاً) ومن ثمّ يتبعه بمنشور آخر يرثي فيه الفقيد ومآثره وربّما سلبياته وبعضاً من أسراره مرفقاً بصورة تجمعهما في نشاط ثقافي ما أو لقاء في منزل أحدهما، صورة توثّق ابتسامة الرّاحل الذي لم يكن لديه أدنى فكرة عن أنّ صديقه سينشر صور منزله من دون أذنه أو سرّاً من أسراره التي يتباهى بأنّ الرّاحل خصّه بها دون غيره.. أمّا المشيّعون –افتراضياً- الآخرون والذين لا تربطهم بالرّاحل صداقة أو علاقة شخصية فيكتفون بعزاء مختصر مفيد وصورة إن توافرت في أرشيفهم الذي كلّما رحل أديب يعودون إليه وربّما يتحسّرون لعدم وجود صورة تجمعهما.. تحسّر أعلن عنه البعض بسخرية من هذا الوداع.

يستمر هذا التّشييع الافتراضي يوماً كاملاً ومن كثرة المشيّعين يعتقد المرء أنّ المدينة ستشهد جنازةً كبيرةً لم يحظَ بها أديب من قبل.. ينقطع التّيار الكهربائي ويسير الإنترنت ببطء شديد، لنستيقظ في اليوم التّالي على صورةٍ فيها خمسة أصدقاء يودّعون فقيدهم للمرّة الأخيرة وسادس يوثّق بجوّاله حدثاً أليماً سيعيدون نكأه في التّاريخ ذاته من العام التّالي.

ولا يمنعنا كون المقالة مخصّصة لظاهرة التّشييع الافتراضي من الإشارة إلى ظاهرةٍ أخرى لا تقلّ عنها أهميةً ألا وهي الشّماتة التي أظهرها بعض المثقفين والفنانين برحيل إحدى الشّخصيات الفنّية منذ أشهر كما لو أنّهم في جلسةٍ خاصّةٍ، لكن للأسف كلّ هذه البشاعة توثّقها وسائل التّواصل الاجتماعي ومحرّكات البحث لسنواتٍ طويلة!. فهل أصبح الموت عند المثقف السّوري أمراً هيناً لا هيبة له ولا قداسة؟ هل حقّاً هناك من يظنّ أنّ على رأسه خيمةً وأنّه إن رحل في يوم ما سيلقى وداعاً أفضل ممّا فعل؟.

نعلم أنّ وقتنا كما وصفه أدونيس بين الرّماد والورد، ولكن هل سيصبح “الصّدق موتاً والموت خبز الشّعراء”؟.. لكننا نعلم أيضاً أنّ الموت لا يخلد أحداً.. نستذكر هنا أبياتاً لأبي العتاهية، يقول:

الموت لا والداً يبقي، ولا ولدا  ولا صغيراً، ولا شيخاً، ولا أحدا

للموت فينا سهام غير مخطئة  من فاته اليوم سهم لم يفته غدا

نجوى صليبه