Uncategorizedثقافةصحيفة البعث

سر نبوءتي: ديوان للحب والحلم والتمرد

يقول ديفيد هيوم: الجمال ليس خاصية في ذات الأشياء بل في العقل الذي يتأملها.

فاتحة هذا الديوان منظر لغياب الشمس وجزء من خلفية رأس امرأة يرقب هذا الزوال. هل هو زوال أبدي كما يرى المتشائمون أم هو بدء يوم جديد، أم حلم جديد كما يرى المتفائلون، ولنوسّع فتحة البيكار قليلاً: هل هي نبوءة أن تتوقع شيئاً بدهياً يتكرّر كل يوم؟ أليس المقدمات ذاتها تؤدي إلى النتائج ذاتها، لكن ما النبوءة؟ أهي الرسالة التي يحملها نبي لنقلها وتبليغها للناس بإلهام إلهي؟ أم هي تحليل منطقي للأحداث والوقائع؟ أم هي معرفة الغيب كما يقول العرّافون.

تهدي الفنانة رنا محمود ديوانها “سر نبوءتي” إلى أناها والسر الدفين لتضعنا في إشكالية هذا الإهداء الذي يشير إلى شيئين: إمّا إلى عدم الثقة بالناس، وإمّا إلى نرجسية عالية لا ترى إلّا نفسها فيها، لذلك فلا يستحق أحد أن يهدى إليه هذا الديوان سوى ذاتها، وهذا باعتقادي لا يتناسب مع عقل وفكر الشعر والشاعر بالمطلق، فهما نتاج المجتمع ويصبان فيه، علماً أنها جاءت من مسافات بعيدة لتهدي ديوانها لكل من يريده.

في المقدمة التي كتبتها رنا تقول: الكتابة أنثى متمردة.. الكتابة تشبهني. ثم تقول: ها أنذا أقدم نفسي من دون رتوش.

أنا مع التمرد الممزوج بالوعي الذي يرفض واقعاً مؤلماً ويناضل في سبيل تغييره، فهل فعلت الشاعرة ذلك، ولاسيّما أنها تقول: إن صوتي مرسال قلبي فافتحوا له أبواب نوافذكم. يا لها من رسالة بالغة الصدق والاحترام للذات والمتلقي، فهذه المرأة الطفلة تقدم نفسها بكل شفافية فلنقرأها كما سفحت نفسها على أوراقها المئة والعشرين لا كما يقرؤها البعض من ذوي الفكر الواهن هم أبعد ما يكونون عن الثقافة الحقة التي من أهم معانيها تجليس الإعوجاج وتصحيحه لا الطرق فوقه كي يزداد اعوجاجاً.

في بدء الديوان تقول رنا: حين شاء أبي أن يرسمني لوحة أنجبتني أمي قصيدة لا تشبهها قصيدة أخرى، فصرت ألوّن الفراشات بألوان الطفولة. صورة عذبة ولو أنها عادت للتركيز على هذه الأنا، والأنا لها فوائد عديدة  كمحاولة التميز والارتقاء وهذا واجب وضروري لارتقاء المجتمع، لكن من مضارها أنها تحمل الشر في ذاتها واستعباد الآخر وإقصاءه، والسيّدة محمود ليست كذلك، فلمَ التركيز على هذه الأنا! ربما هي ردة فعل ليس غير.

تعود في القصيدة الثانية للتعريف عن نفسها بقولها: هذي أنا، السر المدفون والصرخة الثكلى، تمتد أدهاراً. هذي أنا والصلصال يروي حكايتي ويذيع فصولها. العمر الخريف. هذه أنا النخل السماوي فاسمعوا أناشيد الحفيف.. إلخ.

لعمري أن هذا من الشعر المليح لما حواه من معانٍ وبلاغة كالصرخة الثكلى والعمر الخريف وأناشيد الحفيف والنخل السماوي، وكلها عبارات دالة على الوجع الداخلي، مرّة حيث يمضي العمر وهي مقبلة عليه تصنع من الصلصال حياة ودالة مرّة أخرى على الشموخ والكبرياء والتحدي. والقصيدة طويلة وقد وضعت فيها محمود خبرتها الحياتية والثقافية لتعرج أيضاً على أوغاريت إرث الله وصورة الحضارة البهية وعلى بابل وأكاد وأرواد التي تقول فيها:

والبغي يلهبُ ظهرها جلداً

وشرق الوأد

يا للموت!

ما زالت جراحه تصهل

وهذه صورة شعرية جميلة لما ملكته من جمال التعبير ورمزيته ودلالاته، وعلى الرغم من الاختلاف الواضح مع قصيدة أحمد مطر إلّا أنها قادتني إليها عنوة:

صعّد فهذي الأرضُ بيتُ دعارةٍ

فيها البقاء معلّقٌ ببغاء

من لم يمت بالسيف مات بطلقة

ماذا يضيرك أن تفارق أمةً

ليست سوى خطأ من الأخطاء

رمل تداخل بعضه في بعضه

حتى غدا كالصخرة الصمّاء

في الحقيقة إذا لم ترتعد أوصالك حين تقرأ قصيدة، فلا تقرأها، وإن لم تغيّر أفكارك فلا تقرأها. وهذا السيل الركيك من الشعر الذي أسمعه جعلني أعك في تقديم النصوص الشعرية.

اللافت في نصوص السيّدة رنا أنها تطوّرت كثيراً عمّا سبق، وهذا يحسب لها، ويؤذن بولادة شاعرة إنسانية حقيقية، كقولها مثلاً:

أنا أنثى حرّرت نفسي من قيود الزمن

مداي كل هذا الكون

رؤاي الأزرق الممتد

هذا هو الشعر الذي عنيته والذي يحرّك الفكر ويجمّل الذائقة الفنية.

وبعد.. يتفاوت الشعر بين نص ونص وهذا أمر طبيعي فالحالة المتأججة للشاعرة غير الحالة الباردة.

وإنني أشد على يدي السيدة رنا التي بدأت مرحلة جديدة من تقدمها في رحاب قصيدة  النثر، ولاسيّما قصيدتها الجميلة “أوكسجين الحب” وغيرها من القصائد. وفي العموم يمكن القول إن هذا الديوان حمل بين جناحيه الحب بكل أشكاله ناثراً إياه على الناس كلهم، ويتسم أيضاً بتمرد الشاعرة على المفاهيم والقيم البالية التي تحدّ من قدرة المرأة على التميّز والإبداع، وهي في الوقت ذاته تشنّ هجومها على أولئك الذين لا يجدون في المرأة سوى جسد للارتواء فقط، وهؤلاء المرضى النفسيون موجودون بكثرة بيننا مع الأسف الشديد، أضف إلى ذلك فإن رنا في هذا الديوان حالمة كبيرة في تحقيق كل ما تريده بالإرادة والعزيمة والصبر. لكن اللافت أنني لم أجد أي نبوءة خارج منظومة العقل البشري إلّا إن قصدت أنها بتحليلها الفكري والمنطقي للأشياء يجعلها تسمّي ذلك نبوءة، والتنبؤ في كثير من الأحيان دراسة الواقع وإطلاق حكم مستقبلي عليه كأن نقول مثلاً إنّ رنا محمود سيكون لها شأن في المستقبل، وهذا الحكم أطلقناه بناءً على ما بين أيدينا من فكر وشعر.

محمد الحفري