مجلة البعث الأسبوعية

“التنافس الإستراتيجي” قد يظل الموقف السائد في المستقبل المنظور بكين تسخر جهودها لبناء مجتمع المصير المشترك وواشنطن المدفوعة بالخوف باتت قوة متراجعة

البعث الأسبوعية- عناية ناصر

قيل الكثير عن التصعيد الأخير للتوترات بين الولايات المتحدة والصين وتداعياته المحتملة، لكن ما يحظى بالاهتمام في ظل هذه التوترات هو كيف ترى كل من الصين والولايات المتحدة حال العلاقة بينهما، وكيف يؤثر ذلك على خططهما للمستقبل؟.

يمكن لتحليل رأي النخبة السائدة في الصين والولايات المتحدة ، بدءاً بردود الفعل على القمة الافتراضية التي عقدت في 16 تشرين الثاني الماضي بين الرئيس الأمريكي جو بايدن، والزعيم الصيني شي جين بينغ، أن يلقي الضوء على كيفية فهم كل جانب للأسباب الجذرية للمنافسة الحالية، و لماذا يعتقدون أنهم يستطيعون التغلب عليها؟.

بالنسبة للولايات المتحدة، فإن التنافس مدفوع بتحدي الصين لقوة الولايات المتحدة وقيادتها، فضلاً عن اعتقادها أن بكين تحاول تغيير النظام الدولي لمصلحتها الخاصة. أما بالنسبة لبكين، فهي مدفوعة بسعي الولايات المتحدة المستمر في “الهيمنة” رغم ما تعتبره النخب الصينية تراجعاً حتمياً لها. بينما تعتقد كل من واشنطن وبكين أن علاقتهما سيتم تحديدها بشكل أساسي من خلال التنافس لا من خلال  التعاون في المستقبل المنظور، إلا أن هناك مؤشرات على أن كلا القوتين تأملان في توفير الاستقرار الاستراتيجي، حتى مع استمرار التنافس فيما بينهما وإن كان القيام بذلك يبدو صعباً.

تناقضات في الرؤى

صاغت كل من الولايات المتحدة والصين قمة بايدن- شي الافتراضية في 16 تشرين الثاني الماضي على أنها تدوال “مهذب” ولكن “مباشر” حول مجالات الخلاف الرئيسية. ومع ذلك، فإن المقارنة بين قراءات كل من الجانبين توضح أن لكل بلد فهماً مختلفاً جوهرياً، بالإضافة إلى أهدافهما المتباينة، فقد جاء بيان البيت الأبيض موجزاً ويتألف من أربع فقرات فقط، يبدأ بالإشارة إلى أن بايدن وشي اعترفا “بأهمية إدارة التنافس بينهما بمسؤولية”، في إطار فهم يتماشى مع  “مصالحهما”، و تباعد “اهتماماتهما وقيمهما ووجهات نظرهما”. ووفقاً للبيت الأبيض، تتفق الولايات المتحدة والصين بشأن تغير المناخ، وحول تحديات الأمن الإقليمي مثل تلك التي تشكلها أفغانستان وكوريا الديمقراطية، وحول “إدارة المخاطر الاستراتيجية” في العلاقات الثنائية، حيث شدد بايدن على الحاجة إلى “حواجز حماية منطقية لضمان عدم تحول التنافس إلى الصراع وللإبقاء على خطوط الاتصال مفتوحة”. وانطلاقاً من ذلك ، كرس فريق بايدن مزيداً من الاهتمام للاختلافات، وحدد موضوعات معينة مثل السيادة التايوانية، والنزاعات التجارية المستمرة وما يسميه انتهاكات حقوق الإنسان في شينجيانغ والتبت وهونغ كونغ. مؤكداً أن الدفاع عن “مصالح أمريكا وقيمها” مرتبط ارتباطاً وثيقاً بمستقبل نظام دولي “حر ومنفتح وعادل”.

كما يرى فريق بايدن أن استقرار العلاقات بين الولايات المتحدة والصين يمثل جزءاً مهماً من جهوده الأوسع لاستعادة القيادة العالمية للولايات المتحدة، وتنشيط القوة الأمريكية بعد الفوضى التي سادت خلال  ولاية الرئيس السابق دونالد ترامب. لكن الأهم أن القراءة تؤكد حقيقة أن بايدن يرى الصين كعائق أمام تحقيق تلك الأهداف.

في المقابل، تشير قراءات بكين، وهي أطول من ذلك بكثير، إلى مجالات الاهتمام المشترك مثل تغير المناخ. وتؤكد أنه من الطبيعي أن تكون هناك اختلافات بين الصين والولايات المتحدة، لكن كلاهما يشتركان في المصلحة في إدارة العلاقات “بشكل بناء”. ورغم هذا الاتفاق على شكل ادارة هذه العلاقات، إلا انه من الواضح جيداً أن القراءات الصينية تحمل في طياتها اختلافات جذرية وواضحة مع الإدارة الأمريكية، لا سيما عندما يتعلق الأمر بثلاث قضايا هي: وجهة نظرها حول الوضع العالمي الحالي للصين، ومفاهيمها للنظام الدولي، وتقييمها لنوايا الولايات المتحدة.

أولاً: تؤكد بكين مراراً وتكراراً على المساواة الأساسية في المكانة والدور بين الولايات المتحدة والصين، حيث تقول الفقرة الافتتاحية في قراءة الصين للعلاقات مع الولايات المتحدة  أنه “بصفتهما أكبر اقتصادين في العالم وعضوين دائمين في مجلس الأمن” ، يجب على بكين وواشنطن “تعزيز التواصل والتعاون”، ليس فقط من أجل مصالحهما، ولكن أيضاً “لتحمل واجبات المسؤوليات الدولية “. ووفقاً لبكين، فإن كلا البلدين يشتركان بالفعل في القيادة العالمية.

ثانياً: تشكك بكين في التلميح إلى أن الصين تحاول ما تسميه واشنطن  نشر نظام حكمها إلى دول أخرى، مما يشكل تحدياً للقيم والمصالح الأمريكية، فضلاً عن النظام الدولي الأوسع. وتؤكد أنه في حين أن تطور الصين وتحديثها هو “اتجاه تاريخي حتمي” ، فإن الصين “ليس لديها نية لتصدير طريقها الخاص إلى العالم”. وبدلاً من ذلك ، تقول بكين أنها ستشجع البلدان الأخرى على إيجاد مسار للتنمية يناسب ظروفها الوطنية، حيث تفضل الصين حماية “نظام دولي” على أساس القانون الدولي والمعايير الأساسية للعلاقات الدولية المستمدة من أغراض ومبادئ ميثاق الأمم المتحدة. وهذا بالضرورة يعكس تأكيد بكين على ضمانات ميثاق الأمم المتحدة بعدم التدخل في سيادة الدولة، وخاصةً في مجال ضمان حقوق الإنسان الشماعة التي تصورها المم المتحدة على أنها أداة تحاول الولايات المتحدة من خلالها ابتزاز الصين.

 ثالثاً: تنقل القراءة الصينية عن بايدن قوله” :كانت الصين بالفعل قوة عظمى منذ 5000 عام.  أريد أن أكرر بوضوح أن الولايات المتحدة لا تسعى إلى تغيير نظام الحكم في الصين ، ولا تسعى لمواجهة الصين من خلال التحالفات وليس لديها نية للصراع مع الصين. إن حكومة الولايات المتحدة ملتزمة باتباع سياسة صين واحدة طويلة الأمد، ولا تدعم استقلال تايوان وتأمل في أن يظل مضيق تايوان ينعم بالسلام والاستقرار”. لكن هذا الإقرار لا يظهر في نسخة البيت الأبيض، ولم يؤكد فريق بايدن أو ينفي دقته. ومع ذلك، فإن إدراجها مهم، لأنه يلقي الضوء على ما تود الصين أن تسمعه من الولايات المتحدة، وهو الاعتراف بوضع الصين كقوة عظمى، والتأكيدات بأن الولايات المتحدة لا تسعى إلى الدخول في حرب مع الصين، وبأن الولايات المتحدة لا تزال ملتزمة بسياسة الصين الواحدة التي ترى بكين أنها تدعم السيادة الصينية على تايوان.

صراع بين نظامين

الخلاف في القراءتين يؤكد أنهما أشبه ما يكونان صورتان متناقضتان، مما يشير إلى أن “التنافس الاستراتيجي” قد يظل الموقف السائد في المستقبل المنظور، فعلى مدى السنوات الأربع الماضية، ظهر موقف إجماع بين المتخصصين في السياسة الخارجية الأمريكية تجاه الصين، وهو موقف يؤكد ضرورة تعامل أمريكي أكثر صرامة مع الصين، لأن تقييم واشنطن، كما بدا في تقرير القوة العسكرية الصيني الأخير الصادر عن البنتاغون، هو أن القدرات العسكرية للصين في وضع يمكنها من تحدي قوة الولايات المتحدة ومراجعة النظام الدولي بما يتماشى مع مصالحها الوطنية. و يمكن ربط هذا التحول في السياسة الصينية بسعي الحزب الشيوعي الصيني من أجل “التجديد العظيم للأمة الصينية” وإعادة تأكيد الضوابط للسيطرة على المجتمع الصيني. وفي هذه القراءة ، فإن ظهور الصين كدولة قوية وطموحة سيؤدي حسب النظرة الأمريكية إلى تطوير “نظام دولي جديد من شأنه أن يجعل العالم أقل حرية وأقل أماناً”، ما لم ترد الولايات المتحدة وتتخذ اجراءات حازمة ضد التنين الصيني القادم بقوة الى الساحة العالمية. وكما يقول أورفيل شيل- مدير مركز “آرثر روس” لدراسة العلاقات الأميركية الصينية في “جمعية آسيا”، ومؤلف رواية “بيتي القديم” – في موقع “ذا واير”:  “إن هذا الرأي يؤدي إلى موت المشاركة كمبدأ منظم لعلاقات الولايات المتحدة مع الصين. ويستبدل المشاركة بتبني خطابي وتشريعي مفتوح لـ التنافس الاستراتيجي “.

لكن مايلفت، كما لاحظ العديد من النقاد، هي أن المنافسة الاستراتيجية ليست استراتيجية، ونتيجة لذلك، فإن هذا لا يعزز مصالح أمريكا. ويجمع  المتخصصون في السياسة الخارجية الأمريكية – مثل إدارتي ترامب وبايدن – على نطاق واسع حول طبيعة المشكلة التي تواجهها الولايات المتحدة، لكنهم لم يستقروا بعد على حل. أما في الصين، فقد مرت آراء المتخصصين في السياسة الخارجية حول التعامل مع الولايات المتحدة بعدة مراحل منذ التسعينيات، كل منها يتوافق مع وجهة نظر مختلفة حول ما تعنيه “الهيمنة” الأمريكية بالنسبة للصين. خلال التسعينيات، كان الرأي الإجماعي هو أن على الصين حشد “قوتها الوطنية الشاملة” لمقاومة الضغط الأمريكي خلال “لحظة أحادية القطب” لواشنطن. في العقد اللاحق، بعد هجمات الحادي عشر من أيلول الإرهابية، بدأ الاستراتيجيون الصينيون في رؤية نقاط الانعطاف الرئيسية للعصر – الحرب العالمية على الإرهاب، والأزمة المالية العالمية لعام 2008 – كفرص للصين للاستفادة منها. وقد بدأت بكين في تبني استراتيجية “الصعود السلمي”. ثم جاء التحول التالي، خلال فترة ولاية شي جين بينغ الأولى كرئيس للصين، إذ سعت بكين إلى تسخير القوة الصينية لبناء “مجتمع المصير المشترك”، واعتبر بعض المتخصصين في السياسة الخارجية الصينيين أن الولايات المتحدة ليست في حالة تدهور لوحدها، ولكن أيضاً كانت “الهيمنة” كمبدأ منظم للعلاقات الدولية. وجهة النظر هذه تقدم رؤية لعالم أكثر تعددية من شأنه أن يحل محل الهيمنة الأمريكية. أخيراً، في السنوات الخمس الماضية، خلال فترة ولاية شي الثانية، أدركت النخب الصينية أن واشنطن لن تسلم بسهولة بتراجعها، فبدأوا ينظرون إلى الولايات المتحدة على أنها قوة مهيمنة “متراجعة”، وأن الولايات المتحدة، كما أشار خبير السياسة الخارجية وانغ جيسي مدفوعة بالخوف والحسد لاحتواء الصين بكل طريقة ممكنة، مما يجعلها أكبر تحد خارجي لأمن الصين القومي وسيادتها، والاستقرار الداخلي.

تم التعبير عن وجهة النظر هذه، في تحليل الخبراء الصينيين لقمة بايدن شي، فقد  وصف الكاتب المتخصص في الشأن المريكي تشاو مينغاو ، على سبيل المثال ، الولايات المتحدة التي “فشلت في كسب الحرب التجارية” ، بأنها تلعب الآن “بشكل خبيث” بورقة تايوان لـ “مواجهة صعود الصين السلمي”.  ويشير آخرون ، مثل وانغ هونغ جانج- منظّر سياسي صيني وواحد من أهم قادة الحزب الشيوعى الصينى، وعضو حالي في اللجنة الدائمة للمكتب السياسي للحزب الشيوعي الصيني- إلى أنه بينما يبدو أن بايدن مهتماً بالتعددية أكثر من ترامب، فإن “التفكير الاستراتيجي لإدارة بايدن لا يزال يتبنى الهيمنة الأمريكية”. وهو يرى أن إدارة بايدن تسعى للإشارة إلى أنها “تتمتع بالقوة” نتيجة الخوف من أن سنوات ترامب أضرت بمصداقية الولايات المتحدة ونفوذها. ولكنها في الحقيقة ، كما يقول، “حكومة ضعيفة”.  أخيراً  يرى هوانغ رينوي من جامعة فودان بأن العلاقات بين الولايات المتحدة والصين تتبع المراحل الثلاث للحرب المحددة في أطروحة ماو تسي تونغ عام 1938 بعنوان “في الحرب الممتدة”: الدفاع الاستراتيجي، والمأزق الاستراتيجي،والهجوم الاستراتيجي المضاد. وفقاً لـ هوانغ، تمر العلاقات الأمريكية الصينية حالياً بمرحلة “الجمود الاستراتيجي” نظراً لأن الولايات المتحدة “لا تملك القدرة والإرادة لتكريس جميع مواردها للمواجهة مع الصين”. يقول هوانغ إن هذا يمنح الصين اليد العليا، لأنه إذا استمرت الولايات المتحدة “في تكثيف جهودها ضد الصين على مدى فترة من الزمن، وعند هذه النقطة سيتحول المأزق الاستراتيجي لصالح الصين”.

تداعيات الجمود الاستراتيجي

تؤدي الاختلافات الجوهرية بين وجهتي النظر الأمريكية والصينية إلى وجهات نظر مختلفة جذرياً حول كيفية إيجاد  حل لهذا التنافس ، فكما قال بايدن للكونغرس في نيسان الماضي، فإن هدف الولايات المتحدة هو بذل جهود شاملة من أجل “التنافس خارجاً” مع الصين من أجل “الفوز بالقرن الحادي والعشرين”. تعتقد الإدارة الأمريكية أن نجاحها في هذه المنافسة مرتبط بـ “أسس قوة الولايات المتحدة”، مؤكدة أن “المزايا الأمريكية النسبية فقط هي التي ستنتج الأمن ، وفقدان الصدارة سيعرض المصالح الأمريكية للخطر”. ومع ذلك ، على الرغم من أن إدارة بايدن ربما تكون قد التزمت خطابياً بإعادة بناء النظام الدولي، إلا أنها في الواقع منشغلة بتعزيز الجوانب العسكرية للقوة الأمريكية. أما بالنسبة لبكين، فإن وجهة النظر السائدة القائلة بأن الولايات المتحدة التي تنتقد الصين بزعم قضايا تمتد من انتهاكات حقوق الإنسان في شينجيانغ إلى  كوفيد-19 يجب أن تجعل بكين تلجأ إلى حماية نفسها من المعاملة غير العادلة أو الخبيثة من الولايات المتحدة. ومع ذلك، في الوقت نفسه، يعتقد المحللون الصينيون أن الوقت في صالح الصين، وأن جهود الولايات المتحدة “للتنافس ” مع الصين ستسرع من تراجعها.

لا يزال من الممكن أن تجد واشنطن وبكين طريقة للانتقال إلى “التعايش التنافسي” ، مع وضع حواجز لتجنب الصراع. ولكن حتى لو بدت مثل هذه  الفرص قليلة، فلا ينبغي استبعاد الآفاق طويلة المدى، خاصة وأن كلا الطرفين لهما مصلحة مشتركة في الوصول إلى الاستقرار. ومع ذلك ، فإن الاختلاف الأساسي بين رؤية الولايات المتحدة، ونظرة الصين يوضح أن تحقيق التعايش لن يكون سريعاً ولا سهلاً، والسبب بكل بساطة أن الأمريكيين المثاليين أخطؤوا في تحديد اتجاه التاريخ، وما عزز هذا الخطأ هو غرق الولايات المتحدة في الاحتجاجات العرقية، وعمليات إطلاق النار الجماعية مع اقتحام اليمينيين الشعبويين مبنى الكابيتول الأميركي، ورفض المحافظين الأميركيين التطعيمات ضد فيروس كورونا باسم الحرية، فهل تلتقي ديناميكية الصين مع ما تسميه الولايات المتحدة الحرية والديمقراطية؟.