مجلة البعث الأسبوعية

الشاعر الغنائي عبد الرحمن الحلبي: الأغنية السورية تئن حزناً على الزمن الجميل

البعث الأسبوعية-أمينة عباس

في رصيده نحو مئة نص غنائي بين القصيدة والموشح والابتهال والأهزوجة وأناشيد الأطفال، وهو شاعر غنائي معتمَد في الهيئة العامة للإذاعة والتلفزيون.. اختص في نظم الأغاني كالموشح والقصيدة والابتهال والأهزوجة والقدود، إضافة إلى شارات المسلسلات.. بدأ مشواره الفني عام ١٩٩٤ عندما نفذ أول أعماله في إذاعة دمشق لتتبعه أعمال أخرى بُثّت عبر إذاعات عديدة.. لحن كلماته ملحنون كبار أمثال: عدنان أبو الشامات ونجيب السراج وسهيل عرفة وابراهيم جودت وعبد الفتاح سكر وأمين الخياط وأسعد خوري الذي رحل بعد أن لحَّن ووزع له أغنية “أجراس العيد” التي نُفذت بعد رحيله من خلال نجله المايسترو فراس خوري.. إنه الشاعر الغنائي عبد الرحمن الحلبي الذي التقته مجلة “البعث” الأسبوعي وأجرت معه الحوار التالي:

*يمرّ الشاعر بمراحل عديدة، فمتى قررتَ احتراف كتابة الأغاني؟

**نقلتني الكتابة الشعرية من حال الرقود إلى حال النهوض، فعندما احترفتُها مطلع التسعينيات وكان ذلك في وقت متأخر من عمري صرتُ متزناً بتفكيري مدركاً لمفردات حديثي وأبحث دائماً عن الكلمات المنمقة كي أسخّرها في كتابتي، وتتلمذتُ على أيدي أساتذة كبار في مقدمتهم الشاعر الكبير كمال فوزي الشرابي والمربي أ.تيسير السروجي.

*متى تتحول الكتابة برأيك إلى عادة من الصعب التخلص منها؟

**الكتابة رهينة الساعة ولا تقتصر على روتين يومي بل تخضع لحدث ما، فالكتابة بالنسبة لي هي الهواء الذي أتنفسه، فبها أفرغ سريرتي لما يدور حولي إن كان حزناً أو فرحاً، إنها حالة مجتمعية أو وطنية أو إنسانية، وكله يصبّ في بوتقة واحدة هي إفراغ ما أختزنه في جعبتي وكينونتي فأعالج ذلك برؤيةٍ توعويةٍ الغاية منها إقناع الآخر بمنطق الحكمة، كل حسب تفكيره وثقافته.

*هل تنتمي لمدرسة غنائية معينة؟

**لم أختص بلون غنائي محدد بل تنوعت وتلونت أشعاري الغنائية بين الفصحى والمحكية، وقد تأثرتُ ببعض الشعراء الغنائيين لكن لم أتأثر بمدرستهم بل نوعتُ بأشعاري الغنائية فنظمتُ الموشح والقصيدة والابتهال والأهزوجة والمونولوجات الناقدة والاجتماعية، إضافة لشارات المسلسلات والبرامج الإذاعية والتلفزيونية والأوبريتات والديالوجات والدويتويات بطريقة السهل الممتنع حتى تصل كتاباتي إلى كافة شرائح المجتمع، وهذا ليس ضعفاً مني لأنني قادر على أن أصيغ كلمات بليغة المعنى ثقيلة الرؤية غير متداولة وقد صغتُ الكثير منها ونفذتها غنائياً ومع هذا أميل دائماً للكلمة التي تدخل القلب والعقل بمعناها ومغزاها دون تعقيد أو غموض.

*كانت تربطك علاقة بالفنان الراحل رفيق سبيعي لتنفيذ مشروع على صعيد فن المونولوج، فماذا نتج عن هذا المشروع؟

**فنان الشعب رفيق سبيعي أفتخر بمعرفته وبكل ما قدم من أغان ومونولوجات نظمتُها له ولحنها كبار الملحنين السوريين، ولا بد أن أذكر أن فكرة هذا المشروع تعود للراحل سبيعي بعد تنفيذه أحد المونولوجات التي نظمتُها له وكان بعنوان “حالي من حالك” ألحان أ.إيهاب مرادني وقد طرح عليّ حينها رفيق سبيعي فكرة هذا المشروع الذي يدور حول ما نجم عن الحرب على سورية وما مرّ بها من سلبيات وأخطاء مجتمعية، وقد قال لي وقتها: أريد منك أن تنظم مونولوجاً نبيـّن من خلاله المشكلة ومعالجتها من خلال طرح هزلي بنّـاء وقد نظمتُ موضوعات عدة له منها: حال السوري-أم الأبطال-المكرجية-الروتين-الفواشات-صرخة مواطن-الرشوة-شوفورية التكسيات.. وقد لحّن بعضها الأساتذة: سهيل عرفة-أمين الخياط-صدّيق دمشقي، وللأسف لم يكتمل هذا المشروع بسبب مرض سبيعي وقتها ورحيله عنا ولم يُنفذ المشروع وما زالت بعض نوتات تلك الألحان موجودة عندي، وبعد رحيله صرتُ أبحث عمن سيكمل هذا المشروع التوثيقي ولكني لم أحظَ بمن سيمضي على خطاه وما زلت أبحث ولم أفقد الأمل في ذلك.

*كيف تفسر قلة هذا النوع من الأغاني وقد كان له حضور جيد في فترة من الفترات؟

**عُرف فن المونولوج في مصر وبلاد الشام منذ الحقبة التركية وحتى الفرنسية، إذ كان له وقع عند الناس لأنه يلامس معاناتهم ويعالج بعض سلبياتهم، وقد ظهر الكثير ممن أبدعوا في هذا اللون الغنائي وأذكر المونولوج بست سلامة الأغواني الذي أبدع فيما كتب وقدم في فترة الثلاثينيات والأربعينيات من القرن الماضي وهو الذي تم حبسه ونفيه من قبل السلطات الفرنسية ومن ثم أطلق سراحه ليعود لما بدأ فيه.. واليوم للأسف نفتقد هذا اللون من الغناء ومن يؤديه ونأمل أن يلقى اهتماماً أكثر من قبل المعنيين بالأمر.

*كان الفنان رفيق شكري يقول: “قصائدي الغنائية تحمل ألحانها معها” فهل يصح هذا الكلام على ما كتبتَه وتكتبه؟

**هذا يقع على عاتق الشاعر، فتلك مسؤوليته وحده، والشاعر الغنائي يختلف عن سواه من الشعراء، فهو عليه أن يمتلك أذناً موسيقية وجرساً إيقاعياً من خلال علم النغمة والإيقاع، والمتمكن من تلك الأدوات يكون قادراً على تلحين أي جملة ينظمها في عقله الباطني وهذا ما استطعتُ أن أصل إليه بعد مجالستي لكبار الملحنين والموسيقيين وكان واحداً من هؤلاء الموسيقار عدنان أبو الشامات الذي لحن من كلماتي ما يقارب المئة نص غنائي بين القصيدة والموشح والابتهال والأهزوجة وأناشيد الأطفال ومن خلال نقاشي معه نهلتُ من بحر علمه الموسيقي الكثير، إذ كنا نتناقش في أدق التفاصيل حتى تكون الأغنية متماهية بين الكلمة واللحن ومن خلاصة تجربتي هذه أنصح اليوم من يمتهنون كتابة الشعر الغنائي أن يعززوا ثقافتهم في علم الموسيقا والإيقاع حتى تخرج القصيدة ملحنة قبل أن تلحن بالشكل والمضمون، كما أنصح الملحنين أن يدرسوا علمَ العروض الشعري حتى ينسجم ضرب الإيقاع مع زمن الكلمة، ونصيحتي هذه ناجمة عما نسمعه اليوم من أغان هابطة أساءت للأغنية السورية بشكل خاص والعربية بشكل عام.

*ما أسباب انتشار الأغنية الحديثة الهجينة في كلماتها وألحانها؟

**أدوات الأغنية الناجحة ثلاثة عناصر: الكلمة الهادفة واللحن الشجي والصوت الجميل، ولا نستمع لها اليوم إلا فيما ندر، وللأسف فهذه الموازين انقلبت عند بعضهم بعد أن أمست الأغنية بين أيديهم في مفترق طرق، حيث استبدلوا الكلمة الهادفة بكلمة ركيكة مبتذلة ليس لها معنى وإن وجِدت فهي دون مستوى ثقافتنا وقيمنا ومبادئنا، كما استبدلوا اللحن الشجي بألحان هابطة تتحكم بها الآلة الموسيقية مبرمجة المنشأ والتي افتقدنا بها هويتنا الشرقية الأصيلة واستبدلوا الأصوات الجميلة بالصورة الدخيلة التي باتت همهم ودأبهم أكثر من الصوت الذي تتحكم به تلك الآلة الغربية فتسيّره كما تشاء وترغب.

*اذاً كيف تجد واقع الأغنية السورية؟ وكيف السبيل للارتقاء بمستواها؟

**الأغنية السورية تسن حزناً على الزمن الجميل فلم تعد تلك الأغنية التي عرفناها في السابق رصينة المعنى رشيقة الشجن نستمع لها اليوم وقد انعدمت الموازين الحسية والسمعية عند بعض المتلقين ومن المؤسف أن الأغنية السورية بالخصوص والعربية بالعموم تئن حزناً على الزمن الجميل الذي نتوق له، فقد أمست أغنية اليوم كفقاعة الصابون تظهر وتختفي بعد فترة وجيزة، وهي رهينة الساعة، ولكي تعود لتوهجها لا بد من تضافر جهودنا فيها وهذه مسؤولية وزارة الإعلام ووزارة الثقافة ونقابة الفنانين للاهتمام أكثر بها من خلال مراقبة الكلمة واللحن والتوزيع الموسيقي والغنائي ومنع المحسوبيات والذين يعبثون بالأغنية ويسيؤون لها دون دراية وعلم وثقافة، مع ضرورة أن يكون تنفيذها بإشراف لجنة أكاديمية لتخرج بأجمل حلة تليق بها لتعود إلى ألقها ورونقها وبيئتها الحاضنة وحتى الذين ينتجونها على حسابهم عليهم أن يخضعوا لهذه اللجنة الفاحصة بأي عمل سيقدمونه نصاً ولحناً وصوتاً.

*هل تتفق معي على أن السمة البارزة فيما يقدم من أغنيات  غلبة عنصر اللحن فيها؟

**نفتقد اليوم إلى الجملة اللحنية المميزة التي ترسخ في عقول مستمعيها والتي يطول أمدها، والأمثلة كثيرة في هذا الأمر، وما تلك الأغاني التي قُدمت في فترة الزمن الجميل إلا الدليل على ذلك والتي لم نزل نتسمع لها إلى هذا اليوم لأن الألحان كانت تدرس جيداً قبل تنفيذها فتتماهى الكلمة مع اللحن بانسجام متقن وكان الملحن قبل أن يلحن الأغنية يتدارسها مع ناظمها بأدق التفاصيل في معناها ومغزاها، فتخرج عند انتهائها متكاملة الشكل والمضمون ويأتي بعد ذلك صوت المطرب المتقن ليوصلها لنا بإتقان جلي يبهر الأسماع.

*كيف تكون علاقتك عادة مع الملحن ومن ثم المطرب الذي سيغنّي ما تكتبه؟

**لكل من الشاعر والملحن والمطرب مهمته، وإذا أردنا النجاح للأغنية لا بد من أن يتناقش الجميع في حيثياتها، كما يجب أن تكون العلاقة بينهم مبنية على المحبة والمودة بعيداً عن المصالح الشخصية، ومن الضروري أن تتعزز هذه العلاقة بعد انتهاء العمل حتى ينجم عن ذلك أعمال أكثر نجاحاً وتميزاً، وهذا ما أحرص عليه دوماً.

*كيف انعكست الحرب على سورية على ما تكتبه؟ وما رأيك بما قدم من أغان وطنية؟

**قلبت الحرب الشعواء الموازين والقيم التي تربينا عليها وباتت المصالح في مقدمة أي شيء يواجهنا.. وبالنسبة للأغنية الوطنية عرفت في السابق بالتغني بحب الأرض والدفاع عنها، ولكن اليوم صارت أغلب موضوعاتها تتحدث عن الدفاع عن الوطن أرضاً وشعباً ومجتمعاً وإنسانية، وتوثيق هذه الأحداث عبرها ضروري جداً لأجيالنا القادمة، وقد وثقت الكثير من تلك الأحداث التي عصفت بالبلاد وما ألمّ بنا من الرزايا بقصائد شتى وأغان نفّذ بعضها وبعضها الآخر لم ير النور بعد.

*يقال إن الشعر وليد المواجع، فهل تتحقق هذه المعادلة دوماً في الشعر الغنائي؟

**هذا منوط بفهم الشاعر ورؤيته وبيئته فيطرح في نظمه ما يدور في مخيلته وما يلامسه ويحيط به بالطريقة التي يفرضها مزاجه، فقد يتناول موضوعاته بشكل ساخر، والأمثلة كثيرة في هذا الأمر، والأهم أن يكون الشاعر متسع الرؤية مجتزئ العبارة.

*غالباً ما يكون الشعر الغنائي انعكاساً لما يعانيه الشاعر، فهل تتجنب هذه الحالة أم تنجر وراءها؟

**أبحث دائماً عن كل جديد كي أطرحه في شعري من معاناة أمرّ بها أو يمر بها غيري، خاصة الواقع المجتمعي والإنساني وحتى السياسي، ويحفزني ذلك على أن أنظم الحدث الآني الذي لا يأخذ نظمُه عندي سوى بضع دقائق لأن الموضوع يفرض نفسه، والشاعر بشكل عام مهمته أن يرصّع أي فكرة بشعره، فيلبسها الإبداع والتميز، حاله حال الرسام الذي يجعل من الألوان أجمل اللوحات، وحال النحات الذي يحفر على الصخر ويخلق شيئاً من لا شيء، فالفن بابه واسع ولن ينتهي شرحه.

*متى يتراجع الشعر الغنائي؟ وإلى ماذا يحتاج الشاعر الغنائي ليبقى قلمه حياً؟

**الشاعر بشكل عام كتلة من الأحاسيس تتحكم به عاطفته وعفويته، وهو كالبحر الذي لا ينضب، فلا يخشى العواصف وتتفجر قريحته أكثر من خلالها، والشعر الغنائي تحديداً هو أكثر ليونة وشجناً، فيخترق الروح دون استئذان وأنا لا أملّ منه مهما اشتدت الظروف، فما يدور حولي أطرحه عبر أبيات شعرية تريح قلبي وتصفو بها سريرتي وما تلك السنين الغابرة التي مرت إلا شاهداً على ما أقول، فمن خلالها رثيت وهجيت ومدَحت ونقدت بعض السلبيات المجتمعية وقدمت رؤيتي البصرية والحسـيـّـة لما يحدث.