ثقافةصحيفة البعث

ثنائية الوجود والفناء في “لا تنظروا نحو السماء”

حقق فيلما “هرماجدون” (المعركة الفاصلة)، و”ديب إمباكت” (التصادم الشديد) في عام 1998 نجاحاً هائلاً، من حيث عرض فكرة فناء الحياة بفعل اصطدام جسم فضائي بالأرض بأسلوبين رائعين ومختلفين، لكنهما اتفقا على رسالة واحدة: “ستكافح البشرية دوماً في سبيل بقائها، وحتى لو مات كثيرون، سننتصر في النهاية بفضل شجاعتنا”.

أما فيلم “دونت لوك أب” (لا تنظروا نحو السماء)، الذي صدر في نهاية العام المنصرم، فقد قدم رسالة قاتمة وساخرة تختلف تماماً عن سابقتها أعلاه: حتى عند مواجهة الزوال الأكيد، سيجد البشر سبباً ليدمروا أنفسهم. وهذا يدفعنا إلى التساؤل: هل هذه طبيعتنا حقاً أم هي روح العصر الذي نعيشه اليوم؟

ويختلف “دونت لوك أب” عن سابِقَيه في أن تركيزهما ينصب على الدراما البشرية أكثر من فعل تجنب الكارثة، إذ يعرض الفيلم عالم فلك (ليوناردو دي كابريو) وطالبة دكتوراه (جينيفر لورانس)  يكتشفان مذنباً يتجه نحو الأرض مباشرة، ويستغرق نحو ستة أشهر ليصطدم بها، وهو كبير بما يكفي لتدمير كل أشكال الحياة على الأرض. ويبذل البطلان جهوداً حثيثة، لكن غير مجدية، لتعبئة الدولة والمجتمع والنضال في سبيل البقاء، لنكتشف معهما حقيقة محبطة، هي أن البشر مستهترون وعديمو الاكتراث.

كما تسخر إحدى موضوعات الفيلم بصورة مدروسة من أجواء الانتخابات الأمريكية تحديداً، فتطرح تساؤلاً مهماً آخر: ماذا لو انتهى العالم خلال عام انتخابي في الولايات المتحدة؟ وتجيب عليه بطريقة كوميدية عبثية، لكن فيها – وفي غيرها- مسحة من الواقعية، إذ إن أنظمة الغرب عموماً تُصوِّر لنا كل شيء، من الاقتصاد إلى السياسة إلى غيرهما، أنه حقيقي بالرغم من زيفه، وكل شيء في نظرهم يتعلق بالتمسك بالخداع والتضليل نهجاً، لأن اتباع الحق – برأيهم – مرهق للغاية وقد يزعزع الاستقرار – استقرارهم. وهكذا لا نرى في الفيلم أحداً – لا البيت الأبيض ولا وسائل الإعلام ولا الشعب – مستعد لأن ينزعج من أسوأ نبأ يمكن تخيله، كما أن الانتخابات والملذات والأرباح على المحك، وجميعهم منهمكون بالتمسك بالأمور الدنيوية، فلا يدركون أن كل ذلك تافه أمام الزوال في غضون ستة أشهر.

ونجح “دونت لوك أب” في التعامل مع المواضيع السياسية الشائكة، مع أنه يصعب أحياناً استخلاص استنتاجات من عالم الفيلم وربطها بعالمنا. مثلاً، يبدو أن رئيسة الولايات المتحدة جاني أورليان (ميريل ستريب) ديمقراطية من مجموعة كلينتون، ولديها أسلوب لا يختلف كثيراً عن أسلوب السياسيين من كلا الحزبين الديمقراطي والجمهوري. ونرى في وقت لاحق أنها أنشأت قاعدة دعم عريضة، أنجزت من خلالها ما يبدو أنه مستحيل، إذ جمعت بين اليسار متعدد الثقافات مع اليمين المتطرف. أما سياسة الشخصيات الرئيسية ظلت غامضة في القصة، لكنه أمر مدروس، إذ جعل التعاطف مهم أسهل، لكنه ليس مهماً في الوقت نفسه.

الفيلم في جوهره ليس قصة سياسية، بل قصة عن أشخاص يحاولون إنقاذ الجميع – الذين لا يريدون على ما يبدو أن ينجوا، وهذا ما نشهده لاحقاً – للأسف، ما يرسم لوحة ساخرة تنتقد بشدة اليسار واليمين، ووسائل الإعلام السائدة والمعارضة، وهذا ينطبق أيضاً على البيروقراطيين والخبراء وغيرهم ممن يمتلكون مقاليد السلطة في المجتمع الأمريكي – وربما الغربي عموماً.

وإحدى الشخصيات المثيرة للانتباه رجلُ أعمال كبير في مجال التكنولوجيا، وهي مزيج من أسوأ ما في جيف بيزوس وستيف جوبز وإيلون ماسك، ويصورها الفيلم بصورة شرير، بطريقة تبعث برسالة تحث الأمريكيين على عدم الثقة بالمسؤولين، فهم لا يهتمون لمصلحتهم، وسيخذلونهم عند أمس الحاجة إليهم.

هذه رسالة مفاجئة نوعاً ما من هوليوود، خاصة بعد سنتين من جنون كوفيد 19، فهوليوود مشروع يساري التوجه، وما نراه في نتاجاتها يمثل نظرتها للعالم. أما ما نراه في “دونت لوك أب” هو قيم واسعة جداً وذات نهايات مفتوحة للغاية لدرجة أنها لا تعني شيئاً محدداً، فيناقض بذلك طابع المشاعر الوطنية الظاهر بشدة في “ديب إمباكت”.

ومع أننا لا نلمس أي توجه “محافظ” في “دونت لوك أب”، إلا أننا نتحسس رسالة قد تتفق مع قناعات اليمين الأمريكي: لقد أصبحت أمريكا مجتمعاً منحطاً للغاية، لحد أنه لا يملك الرغبة بالنضال في سبيل أي شيء، بما في ذلك بقاء الجنس البشري.

وحتى عندما يبدأ العالم في التعامل بجدية أكبر مع احتمال الفناء، تتحول كل محاولة لإعداد البشرية لزوالها إلى سلسلة من الوسوم [الهاشتاغات] والشعارات غير الجادة في وسائل التواصل الاجتماعي. وما يراه المشاهدون في الفيلم عبارة عن مجتمع عاجز ببساطة عن أن يأخذ أي شيء على محمل الجد، وسيواجه زواله لعجزه عن تقبل الحقيقة حتى فوات الأوان.

ينتهي الفيلم بنهاية مؤثرة ومأساوية، لكنها تستحق الانتظار، وتكشف أمراً أثبت صحته على مر العصور: حتى القوى الأكثر تدميراً في الكون لا يمكنها أن تسحق الإيمان أو الأسرة، فعلى الرغم من أن وجودنا قد يفتقر إلى المعنى، لكنه يصبح ذا مغزى عندما نؤمن بشيء أكبر من أنفسنا وعندما نعيش لمساعدة الآخرين، وأحباؤنا والأمور التي نتطلع إليها هم ملاذنا من الأهوال والمجهول.

والسؤال هنا: هل يمكننا الاتفاق على أن وجودنا نعمة، بغض النظر عن معتقداتنا وأدياننا؟ وهل من الضروري أن يسلب منا الشيء حتى ندرك قيمته؟ قد لا يكون ذلك كافياً لمحو الانقسامات بدوائرها المختلفة، لكن قد تظهر الوحدة من إدراكنا جميعاً أن الثروة الحقيقية تكمن في سوية علاقاتنا الإنسانية والأخلاقية بعيداً عن الأمور المادية الزائلة.

إعداد: علاء العطار