مجلة البعث الأسبوعية

أحداث سجن الصناعة.. مخطّط استخباراتي أمريكي نُسجت خيوطه بدقة متناهية لتثبيت أمر واقع جديد

البعث الأسبوعية- سنان حسن

على مدى ثمانية أيام من الفوضى والدمار شهدت خلالها أحياء مدينة الحسكة فوضى غير مسبوقة من مواجهات مسلحة ودخول لطيران الاحتلال الأمريكي ومدرّعاته وقوات خاصة من بريطانيا وربما قوات من دول أخرى لم يتم الإعلان عن وجودها، أعلنت في نهايتها ميليشيا قسد العميلة سيطرتها على ما سمّته الخرق الأمني الذي وقع فيما يسمّى سجن الصناعة الذي تحتجز فيه عناصر “داعش” الإرهابي وإعادة الأمور إلى ما كانت عليه سابقاً. إعلان يمكن الجزم بأنه بداية لتطبيق مخطّط رسمته واشنطن لتلك المنطقة ونفذه مرتزقتها، فلماذا الآن؟، وهل ما جرى له علاقة بملف التسويات الذي أطلقته الحكومة السورية في محافظتي دير الزور والرقة؟، أم أن هناك غايات أخرى من وراء ذلك؟.

 

مبرّر وجود

في أيلول عام 2014 ومع إعلان تدخلها في سورية تحت مسمّى الحرب على الإرهاب، وجدت الولايات المتحدة الأمريكية في ميليشيا قسد الانفصالية ضالتها لتكون رأس حربة في زعم محاربة التنظيم واستخدامها فيما يؤدّي إلى تفتيت الدولة السورية عبر دعم نزعتها الانفصالية، ومع إعلان الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب في الثالث والعشرين من آذار عام 2019 الانتصار النهائي المزعوم على داعش الإرهابي بعد معركة الباغوز، لم يعُد هناك مبرر لبقاء التحالف الدولي الذي تقوده واشنطن على أرض سورية، كما لم يعُد مشروعاً وجود قوة عسكرية أخرى -ميليشيا قسد- غير مرتبطة بالجيش العربي السوري، لذا سعت الإدارة الأمريكية إلى إيجاد المبررات والمسوغات تارة من بوابة حماية النفط من داعش، وتارة من أجل تطبيق القرارات الدولية، وتارة ثالثة وهي الأدق أنها لن تغادر أبداً الأراضي السورية، الأمر الذي يؤكد أن هدفها هو تدمير الدولة السورية وإيصال مرتزقتها إلى الحكم، ومع تقدم المفاوضات الجارية حول سورية بين الاتحاد الروسي والولايات المتحدة وأيضاً إعلان واشنطن انسحابها من العراق، تم نقل تقارير عن قرب انسحاب القوات الأمريكية المحتلة من قواعدها غير الشرعية في سورية إلى أن تم تفجير الأوضاع في الحسكة من جديد.

 

مخطط استخباراتي متقن

في الحادي والعشرين من كانون الثاني الفائت أعلن تنظيم داعش الإرهابي عن تنفيذ عملية مزدوجة في سور ما يسمّى سجن الصناعة -الثانوية الصناعية في الحسكة سابقاً- ما أدّى إلى سيطرة عناصر التنظيم الإرهابي بـ”المصادفة” على مستودع للذخيرة وفرار المئات من السجناء إلى الأحياء المجاورة للسجن، إلى هنا تبدو الرواية أشبه بفيلم هوليودي، فخلال المتابعة لما تفرضه الميليشيا الانفصالية من إجراءات حماية حول السجن أو مداخل المناطق التي تحتلها في الحسكة والتقنيات العالية التي تستخدمها في عمليات المراقبة، نجد أن ما حصل هو عملية مدبّرة بامتياز، لأنه مهما كانت قدرات الإرهابيين كبيرة فلا يمكن لهم إحداث أي خرق أمني في جدار الحماية الذي تفرضه الميليشيا العميلة في الحسكة.

المحلل السياسي والباحث الاستراتيجي الدكتور كمال جفا أكد في تصريح لـ”البعث” الأسبوعية، أن ما جرى مخطط استخباراتي أمريكي نُسجت خيوطه بدقة متناهية لتثبيت أمر واقع جديد ضمن لعبة التجاذبات الدولية والصراعات المستمرة منذ أكثر من عشر سنوات وما زالت، وقد توضّحت معالم المشروع الأمريكي من خلال الساعات الأولى التي حدث فيها التمرد في سجن غويران، مضيفاً: إن طريقة تعامل الأمريكيين مع الحدث كانت باهتة جداً على الأرض ورافقها حملات إعلامية ضخمة وكبيرة حاولت إظهار التمرد على أنه خطر يهدّد العالم، وأن ما تقوم به ميليشيا قسد هو أعمال بطولية خارقة تستحق الدعم وكل التعاطف الدولي في وجه أعتى تنظيم إرهابي على وجه الأرض، مبيّناً أن الناطق باسم ميليشيا قسد اعترف أن عملية الهجوم على غويران كانوا على علم مسبق بها منذ ستة أشهر ويعرفون تفاصيلها متهماً  بعض الفاسدين ضمن مقاتلي قسد بأن لهم يداً في إيصال الأسلحة والعتاد إلى السجناء.

 

هدف قريب

 

إن أولى نتائج المخطط الذي نفذته قسد العميلة في أحياء الحسكة هو تهجير أكثر من 7000 عائلة من قاطني الأحياء المحيطة بالسجن، حيث عملت الميليشيا الانفصالية على ترويع الأهالي القاطنين بالقرب من السجن وتفتيش منازلهم بطريقة مرعبة واقتياد القاطنين إلى أماكن مجهولة بذريعة ملاحقة سجناء داعش الهاربين، في حين قام طيران الاحتلال الأمريكي بتدمير المباني الحكومية الرسمية (مبنى فرع جامعة الفرات- معهد المراقبين الفنيين – كلية الاقتصاد) تحت ذريعة ملاحقة سجناء داعش وفي هذا يقول الدكتور كمال جفا: “إن استهدف المباني الحكومية حقق لـ”ميليشيا قسد” ما كانت تحلم به سابقاً من إخراج هذه المباني والمؤسسات من تحت قيادة وإدارة الدولة السورية بل إنهاء وجودها من بوابة تدميرها بالكامل”، إضافة إلى ذلك والكلام لـ جفا، “أن العملية أدّت إلى تهجير قسري لآلاف من القاطنين في هذه الأحياء الذين فشلت قسد سابقاً رغم كل أساليب التي استخدمتها في إخراجهم من أحيائهم”.

 

هدف بعيد

 

في المقابل هناك هدف كبير تريده واشنطن من هذه العملية في الحسكة يتعلق بداية بتبرير وجودها، أقله أمام المجتمع الأمريكي الذي بات يطالب بسحب قوات بلاده من سورية لانتفاء السبب بعد إعلان الإدارة السابقة القضاء نهائياً على التنظيم الإرهابي، وتالياً أمام المجتمع الدولي للقول إن غياب واشنطن عن الساحة يفتح الباب لتمدد داعش مرة أخرى في المنطقة. لهذا عملت واشنطن على تضخيم الحدث القادم من الحسكة وتصويره للرأي العام العالمي على أنه تهديد للأمن والسلم الدوليين وعلى الجميع دون استنثاء دعم تحرّكها ودعم الميليشيا الانفصالية أيضاً وتثبيت وجودها في المنطقة لأنه مقابل ذلك يعني فلتان الوضع وعودة عناصر داعش الذين تحتجزهم في سجونها، وفي هذا يؤكد الدكتور كمال جفا لـ”البعث الأسبوعية” أن “أحداث الحسكة والفيديوهات التي صدرت عن قسد تؤكد محاولة إظهارها بمنطق القوة القادرة على حفظ أمن المنطقة وبأنها أي قسد تتعامل مع الحدث ضمن المعايير الدولية وتطبيق القانون وحقوق الإنسان، وأنها تقاتل نيابة عن العالم أجمع، وأن قيمها الأخلاقية تجعلها تقدم العون والمساعدة حتى لأعدائها كما ورد في فيديوهات تقديم الإسعافات الأولية والطبية والجراحية لمقاتلي داعش الذين تم إلقاء القبض عليهم أو استسلامهم، موضحاً أن “كل الدلائل والأرقام كانت تشير إلى وجود ما بين ١٠ آلاف و١٢ ألف إرهابي من داعش في سجون قسد، بالإضافة إلى ٧٠ ألف معتقل في المخيمات والسجون التي تديرها، وقد حاولت قسد بالتعاون مع الاحتلال الأمريكي تسويق هذا الملف على أنه مسؤولية دولية وعلى دول العالم استلام رعاياها مع أبنائهم وعائلاتهم لانتزاع اتفاقيات وتعاون أمني واقتصادي وحتى اعتراف سياسي بهذه الميليشيا تمهيداً لفرض واقع التقسيم والاحتلال والانفصال عن الجسد السوري وإيجاد ما يشبه اتفاقاً برعاية دولية ينتج انفصالاً حتمياً”. ولكن ماذا عن باقي سجون قسد؟.

 

تسعة سجون

تدير ميليشيا قسد العميلة بإشراف قوات الاحتلال الأمريكي 9 سجون، تحتوي على الآلاف من سجناء داعش الإرهابي، وهذه السجون توجد بشكل مركز في الحسكة والرقة ودير الزور، ويأتي سجن “غويران”، في الجهة الجنوبية لحي غويران في الحسكة، كأكبر سجن في العالم يضم دواعش، وبه 5 آلاف من أخطر عناصر التنظيم. وقرب غويران يوجد “سجن الصناعة” في منطقة سكنية، بعد أن كان مدرسة “الثانوية الصناعية”، إذ تحول إلى سجن لعناصر داعش بعد سقوط  آخر معاقل التنظيم في الباغوز آذار 2019، ويوجد فيه أكثر من ألف داعشي.

وشرق مدينة الشدادي بريف الحسكة الجنوبي، يوجد سجن “كامبا البلغار”، الذي يضم 5 آلاف داعشي، وهو في منطقة عسكرية محصنة قرب القاعدة الأميركية في المنطقة، ويتميز بالحراسة الشديدة من قوات “قسد”. أيضا في الشدادي يوجد سجن الشدادية، وبه مئات الدواعش.

وفي ريف الحسكة الشمالي سجن “ديريك/ المالكية” الذي يطلق عليه ساكنو القرية “دارك”؛ أي الكنيسة الصغيرة بالكردية، ويقع تحت الأرض بأمتار قليلة، ويضم مئات الدواعش.

أما سجن “الكسرة” فيتبع ريف دير الزور الغربي، وبه 500 داعشي من أهم قادة التنظيم الإرهابي، ويقع وسط منطقة أمنية وعسكرية قرب قاعدة الكونيكو الأميركية في دير الزور.

وفي ريف القامشلي سجن يدعى “رميلان”، يضم مئات الدواعش، وسجن “نافكر” بمدينة القامشلي، وتم نقل 60 داعشيا في أيلول منه إلى أحد السجون في الحسكة.

أما في مدينة الرقة، فهناك السجن المركزي للمدينة، ويضم المئات من مساجين داعش.

 

تعطيل التسويات

خلال الفترة الماضية عملت الدولة السورية على فتح باب التسوية في محافظتي دير الزور والرقة، حيث شهدت ولا تزال المراكز التي افتتحتها تشهد إقبالاً من الراغبين على التسوية وإنهاء وضعهم غير القانوني والعودة إلى الحياة في كنف الدولة، وقد شهدت مراكز التسوية قيام العديد من المواطنين الذين عملوا مع قسد خلال الفترة الماضية على تسوية أوضاعهم على الرغم من الترغيب والترهيب الذي مارسته قسد ضدهم، الأمر الذي دفع الميليشيا الانفصالية إلى إغلاق المناطق ومنع المواطنين الراغبين بالتسوية من عبور النهر من مناطق سيطرتها إلى مراكز الدولة، حيث سجلت التسويات في محافظة الرقة على سبيل المثال قيام المواطنين باستخدام الزوارق النهرية لعبور الفرات والوصول إلى مركز تسوية السبخة الذي افتتحته الحكومة، وبالتالي ما حدث في الحسكة وكلام قسد العميلة عن فرار ما يقارب 1500 إرهابي من داعش أو أكثر من سجن الصناعة وإطلاقها حملات متابعة ومداهمة في أرياف الرقة وإغلاق عدد من المدن والبلدات في دير الزور يؤكد أن الهدف هو إطلاق هؤلاء الإرهابيين في المنطقة تمهيداً لقيامهم بعمليات ضد الجيش العربي السوري هناك.

وفي هذا السياق يقلل الدكتور كمال جفا من تبعات ما حدث في الحسكة على التسويات في الرقة ودير الزور معتبراً أن الأزمة المفتعلة بالصناعة لن يكون لها تأثير مباشر على عمليات التسوية والمصالحات التي تقوم بها الدولة السورية والتي ضعضعت كيانات قسد وأيقنت من خلالها أن أبناء المنطقة من السوريين الوطنيين وأبناء العشائر العربية لا يمكن أن يستمروا في العيش تحت إدارة ومؤسسات تنظيم انفصالي يعمل وفق رؤى وتوجيه الدول الكبرى التي تنفذ سياسات تدميرية في المنطقة ولاسيما أن تجربة عفرين ورأس العين وتل أبيض أوصلت معظم مكونات المجتمع السوري في شمال شرق سورية من عرب وأكراد وآشوريين إلى أنه لا مستقبل لهم جميعا في ضوء هذه المليشيات التي تفرض نفسها بقوة احتلال أمريكي سيرحل من المنطقة لا محالة.

 

إعادة إنتاج داعش

من كل ما تقدم يمكن القول أن الولايات المتحدة الأمريكية وبعد أن فقدت الكثير من تأثيرها في المنطقة بفعل تقدم الجيشين العربي السوري والعراقي وتحقيقهما نتائج كبيرة على الأرض في ملاحقة فلول داعش وإعادة الأمن والأمان ولاسيما في المناطق على الحدود بين البلدين، لجأت من جديد إلى إعادة إنتاج داعش الإرهابي وإطلاقه في من جديد في الصحراء العراقية التي شهدت عمليات خطيرة ضد الجيش العراقي أدت إلى استشهاد 11 عشر جندياً عراقياً، والأمر ذاته في البادية السورية حيث تواصل خلايا داعش مهاجمة قوافل الجيش العربي السوري والتي كان آخرها في منطقة المحطة الثالثة قرب السخنة، ما يعني أن فصلاً جديداً من المواجهة تريد أمريكا فتحه بالاستفادة من تواجدها غير الشرعي في سورية لإعادة خلط الأوراق لمصلحتها.

 

مسارين متلازمين

 

في مقابل هذا المخطط الأمريكي الذي بات واضحاً للجميع، تدرك الدولة السورية خطورة ما يحاك ضدها لذا تسعى مع حلفائها على مسارين متلازمين الأول الاستمرار في مكافحة الإرهاب وضرب أوكاره سواء عسكرياً من خلال العمليات المنظمة للجيش العربي السوري وحلفائه أو من بوابه المقاومة الشعبية التي باتت يوماً بعد يوم في وتيرة متزايدة، أدت في إحدى العمليات إلى قيام الاحتلال الأمريكي إلى إعلانه إخلاء قاعدته غير الشرعية في التنف، أو سياسياً من خلال فضح ممارسات الاحتلال الأمريكي ومرتزقته في الجزء الحيوي من الأرض السورية، وتقديم الرواية الحقيقة لأفعاله القائمة على الترهيب والتدمير والبلطجة، وفي المسار الثاني تعمل الحكومة على إعادة إعمار تلك المناطق وتأهيل ما دمره الإرهاب من بنى تحتية ومنشآت ومرافق ولاسيما في القطاع الزراعي من مشاريع إرواء وتطوير وتأهيل لآلاف الهكتارات من الأراضي الزراعية، لتكون قادرة على تمكين الجميع من العمل، لأن العمل والمقاومة يكملان بعضهما البعض.